يطرح أحياناً بعض الكتَّاب من أتباع المدرسة الاستشراقية شبهةً تاريخيةً حول تاريخ فتح بيت المقدس في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث يدعي بعض الأكاديميين والمؤرخين «الإسرائيليين» أن هدف عمليات فتوح الشام التي أعلنها خليفة رسول الله أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكن أكثر من هدفٍ مادي اقتصادي، حيث توجه الفاتحون أولاً في بلاد الشام إلى المناطق التي اعتاد العرب قبل الإسلام على أن تكون مراكزهم التجارية؛ ولذلك، على سبيل المثال توجه جيش عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى غزة حيث كان العرب من قريش يتاجرون في الجاهلية.
بل يدعي أصحاب هذا التوجه أن المسلمين لم يكونوا يرون في الشام أكثر من أرض تجارةٍ ومالٍ واقتصادٍ، وبناء عليه توجهوا إليها لتحصيل خيراتها فقط، ويستدلون على ذلك بأن المسلمين تركوا مدينة القدس حتى النهاية، ولم يهتموا بفتحها إلا بعد أن حصلوا على كافة المدن التجارية المهمة مثل دمشق وبصرى وغزة وحمص، ثم عندما بقيت القدس في النهاية توجهوا إليها بتأثير من اليهود فقط!
لكن الحقيقة أن هذا الادعاء فيه من التسطيح ما فيه، فالواقع أن المسلمين لم يكونوا ينظرون إلى الشام بعيداً عن مكانة بيت المقدس في الإسلام، والدليل على ذلك يقع في صفحات المصادر الإسلامية التاريخية التي تناولت فتوح الشام نفسها، ففي كتاب «فتوح الشام» للواقدي نرى أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه يعلن إطلاق عملية فتوح الشام قائلاً: «ألا وإني عازمٌ على أن أوجه أبطال المسلمين بأموالهم وذراريهم إلى الشام، فإن رسول الله أنبأني بذلك قبل موته»، فبيّن أنه إنما كان ينفذ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في غزوة «تبوك» لعوف بن مالك رضي الله عنه كما ورد في صحيح البخاري: «اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس..»، ولفظ «بيت المقدس» هو الاسم الذي كان يطلق على المسجد الأقصى المبارك، فهذه كانت دلالة على أن فتح بيت المقدس تحديداً كان هدفاً أساسياً لعملية الفتوح.
كما أن أبا بكرٍ رضي الله عنه نفسه بيّن ذلك في رسالته إلى خالد بن الوليد التي أمره فيها بترك العراق والتوجه إلى بلاد الشام فقال فيما رواه ابن المرجى: «إذا جاءك كتابي هذا فاعجل لنجدة إخوانك في الشام، فوالله لَقريةٌ من قرى أرض المقدس يفتحها الله عليك أحبُّ إليَّ من رستاق عظيم من رساتيق العراق».
هذه الإشارات كلها تدل على أن بيت المقدس كان أساساً جوهرياً في عمليات فتوح الشام، بل إن تأخير فتح إيلياء (القدس) في ذلك الوقت حتى الانتهاء من تفريغ بلاد الشام من الروم كان الهدف منه عكس ما يدعي هؤلاء المستشرقون و«الإسرائيليون» تماماً، فقد كان المسلمون يرغبون في فتح القدس دون إراقة الدماء ما أمكن، وذلك احتراماً لمكانتها الدينية الكبرى، وخوفاً من أن تسيل الدماء أنهاراً فيها نظراً لمكانتها الدينية لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فلذلك آثروا تفريغ كافة المنطقة في بلاد الشام، ثم حين أتموا هذه المهمة ولم يبق أمامهم غير القدس وقيسارية –التي تركوها لشدة تحصينها– توجهوا مباشرة لفتح القدس، وتم لهم ذلك عام 16هـ.
ولعل أكبر رد على هذه الادعاءات السطحية هو مسير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاستلام هذه المدينة المقدسة بنفسه، ولو لم يكن لها أهمية لدى المسلمين فلماذا يتوجه إليها وهو الذي كان يتاجر في دمشق وبصرى في الجاهلية؟ إلا لو كانت المكانة الدينية لهذه المدينة الطاهرة هي ما حرك عمر رضي الله عنه ليقطع الفيافي والخبار حتى يستلم مفاتيحها بنفسه رضي الله عنه.