الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تحصد بعد شهور فازرع قمحاً، وإذا أردت أن تحصد بعد سنوات فازرع شجراً، وإذا أردت أن تحصد بعد جيل فازرع رجالاً(1).
هذه الحكمة اليانعة قام بها والد محمد إقبال خير قيام، فقد زرع في قلبه وروحه وهو ما زال غض الإهاب كل معاني وصفات الرجولة السوية التي تؤهله لتحمُّل المسؤولية، وعش معي بعقلك وقلبك لتسمع من محمد إقبال هذا المشهد الذي كان حجر الزاوية في بناء شخصيته وتزكية نفسه وتهذيب خلقه فقال: سائل كالقضاء المبرم طرق بابنا طرقاً متوالياً، فثرت غضباً فضربته بعصا على رأسه فتبعثر ما جمعه بسؤاله، والعقل أيام الشباب لا يفرق بين ضلال وصواب، ورآني والدي فاغتم وأربد وجهه وتأوه وسال الدمع من عينيه، واضطربت روحي الغافلة وطار لُبي!
الضمير جهاز استشعار داخلي يدفع صاحبه إلى ساحات الهُدى ويرده عن مواطن الردى
قال أبي: تجتمع غداً أمة خير البشر أمام مولاها، ويحشر غزاة الملة البيضاء وحكماؤها والشهداء، وهم حجة الدين وأنجم هذه الأمة، والزهاد والعلماء والعصاة، ويأتي هذا السائل المسكين صائحاً في هذا الحشر شاكياً، فماذا أقول إذا قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أودعك شاباً مسلماً فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعل منه إنساناً؟ فتمثل عتاب النبي صلى الله عليه وسلم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء، انظر يا بني إلى شيبي واضطرابي وقلقي، ولا تقسُ على أبيك ولا تفضحه أمام مولاه، يا بني، كن برعماً في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب(2).
الرقابة الذاتية
من الواضحات الجليات لدى العقلاء أن بنيان الإنسان أهم من تشييد العمران، وأن المبدأ الأسمى والأصيل الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه ينحصر في كلمات عشر: «تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(3)، وقد استقاه المعصوم صلى الله عليه وسلم من نبع القرآن الكريم الصافي قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)، (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك).
فالضمير هو جهاز استشعار داخلي دقيق، وإنذار رقيق، وكشاف ينير الطريق يدفع صاحبه إلى ساحات الهُدى ويرده عن مواطن الردى، وهو شعور إنساني باطني يجعل المرء رقيباً على سلوكه وتصرفاته وأقواله وأفعاله، فما أجمل صوت الضمير الذي نادى من مملكة قلب نبي الله يوسف حين دعته امرأة العزيز: (مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف: 23)! أليس هو نفس الصوت الذي جعل ماعز الأسلمي يأتي إلى محكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقيم عليه حد الله؟!
هذه أصوات بينها وشائج وأواصر، ولأهمية بناء الضمير وتعزيزه في نفس محمد إقبال علَّمه الوالد المربي درساً لا يُنسى لما ضرب السائل المسكين، فلم يتخذ الضرب والعنف وسيلة لولده على سوء صنيعه وجهله وعدم تقديره، وإنما كلَّمه بعتاب الحبيب لحبيبه: يا بني، غدا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها؛ العرب والعجم، الحكماء والشهداء في مشهد مهيب وموقف عصيب، ويرفع السائل إلى الله حاجته ويسمع النبي المصطفى شكايته فيعاتبني عتاب المحب لأمته.. ثم وضعه أمام محكمة الضمير الذي يصحبه بقية عمره: يا بني، لا تفضح أباك بين يدي مولاه.
.. وهو شعور إنساني باطني يجعل المرء رقيباً على سلوكه وتصرفاته وأقواله وأفعاله
نحتاج أن نربي أولادنا على الرقابة الذاتية منذ الصغر لتكون لهم خلقاً وطبعاً عند الكبر، ساعتها لن نحتاج إلى كاميرات المراقبة والمتابعة؛ لأن رقابة الداخل أبقى أثراً وأجدى نفعاً وأعظم أجراً.
ضمير الأمة
شب محمد إقبال في رحاب هذا البيت الطهور بصحبة وتوجيه والده الوقور، فحمل رسالة الإسلام بين جوانحه، يطير به ويغرد بمبادئه، وكانت قضيته الكبرى وغايته العظمي، وقضى حياته في البحث عن أمجادنا العظام وأبطالنا الكرام الذين رحلوا وغابوا في غياهب الماضي، سالت في شعره دموعه ودماؤه، وفاضت فيه مهجته ودعاؤه، زار قرطبة ووقف أمام الجامع ولم يجد المسلمين، وقد تحول المسجد إلى حانات من الخمر، ووجد العاهرات وهن في محراب المسجد؛ فبكى وجلس عند الباب وأنشد قصيدته الرائقة:
أرى التفكيرَ أدركَهُ خمولِي ولَمْ تَبْقَ العزائم في اشتعالِ
وأصبح وعظكمْ من غير نورٍ ولا سحرٍ يطلُّ من المقالِ
وعند الناس فلسفةٌ وفكرٌ ولكن أين تَلْقِينُ الغزالِي؟!
وجلجلة الأذان بكلِّ حيٍّ ولكنْ أين صَوْتٌ مِنْ بلالِ؟!
منائركمْ عَلَتْ في كلِّ ساحٍ ومسجدكمْ مِنَ العُبَّادِ خالِ(4)
نحتاج أن نربي أولادنا على الرقابة الذاتية منذ الصغر لتكون لهم خُلُقاً وطَبْعاً عند الكبر
كان له قلم سيَّال، وفكر إلى رياض الإسلام ميال، وفي ديوانه عطر السماء خير مثال، نختم به المقال لموافقته مقتضى الحال:
نَم يا بُنيّ على يدي إنيّ أُعـِدّكَ للغدِ
إني أُعّدك كي تُرى شِبلاً بظلِّ المسجدِ
لِتكون جنديّ الهدى في ظلّ رايةِ أحمدِ
كنْ يا بُنيّ موحّداً واخضعْ لكلّ موحّدِ
كن يا صغيري مِشعلاً يهدي بليلٍ أسودِ
في معملٍ في محفلٍ في مسجدٍ في مَعهدِ
كن يا صغيري بُرعماً يَنمو بغصنِ محمد(5)
إن هذه النفحات الربانية والجرعات الدينية النقية لهي الدواء الناجع للبشرية، وعلى حين غفلة من العواد وزحام الرواد غربت هذه الشمس المباركة التي ملأت القلوب حرارة ونوراً، وعزة وشموخاً.
______________________
(1) فن صناعة الرموز خطوة بخطوة، ص 4.
(2) فلسفة الذات في فكر محمد إقبال، ص 38.
(3) صحيح البخاري (50).
(4) روائع إقبال للندوي، ص 120.
(5) المرجع السابق، ص 125.