تعد الحركة الصهيونية، منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر، من أبرز المشاريع الاستعمارية التي حددت مسار التاريخ السياسي للشرق الأوسط، وكانت بمثابة الأرضية التي أسست لإنشاء دولة الاحتلال على حساب الشعب الفلسطيني.
هذه الحركة التي استندت إلى أيديولوجيات قومية ودينية، ارتكزت على فرضية «الوطن القومي» لليهود في فلسطين، ومع مرور الزمن، تجسد هذا المشروع واقعًا سياسيًا وعسكريًا، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من هيكل الاستعمار الغربي في المنطقة.
لكن هذا المشروع لم يكن ليكتمل دون مقاومة شديدة، فالشعب الفلسطيني، على مر الأجيال، خاض نضالاً مستمرًا ضد هذا التوسع الاستيطاني، وبرزت شخصيات فلسطينية وعربية وعالمية كانت في طليعة هذا الكفاح، مكرسة نضالها الفكري والسياسي والعسكري لحماية الأرض والهوية الفلسطينية.
البدايات الصهيونية.. من الفكر إلى السياسة
لقد كانت الحركة الصهيونية بمثابة رد فعل على الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها اليهود في أوروبا، حيث شهدت قارتهم العديد من حالات الاضطهاد، وكان ثيودور هرتزل، في إطار محاولاته لإيجاد حل لمشكلات اليهود في أوروبا، أول من بلور الفكرة القومية الصهيونية، وكتابه «الدولة اليهودية»، الذي نشره عام 1896م، كان بمثابة إعلان للهدف الأساسي «تأسيس دولة لليهود في فلسطين»، هذا الفكر لم يكن مجرد استجابة لظروف جغرافية أو ثقافية معينة، بل كان جزءًا من تيار القومية الذي اجتاح أوروبا في تلك الفترة، مما ساعد في تعزيز فكرة القومية اليهودية داخل هذه الأيديولوجية.
ومع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897م، دخلت الحركة الصهيونية في مرحلة تنظيمية جديدة، فتم تأسيس مؤسسات تهدف إلى جمع التمويل والتخطيط لمشروع الهجرة إلى فلسطين، وكانت هذه بداية سلسلة من المراحل التي ستؤدي لاحقًا إلى إقامة دولة الاحتلال، وبالتوازي مع ذلك، بدأ تنفيذ الإستراتيجيات الصهيونية على الأرض من خلال شراء الأراضي، وتنظيم الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وهو ما شكل تهديدًا مباشرًا للوجود الفلسطيني في تلك المنطقة.
الاستعمار البريطاني.. «بلفور» وتحقيق المشروع الصهيوني
في ظل التغيرات العالمية الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في أعقاب «وعد بلفور» الذي صدر عام 1917م، حصلت الحركة الصهيونية على دعم دولي من بريطانيا لإنشاء «وطن قومي» لليهود في فلسطين، هذا الوعد جاء ليمنح الحركة الصهيونية غطاءً سياسيًا دوليًا؛ ما سمح بتدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين تحت حماية الاحتلال البريطاني.
كان هذا الدعم البريطاني جزءًا من محاولة القوى الاستعمارية الغربية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وهذا بدوره مهَّد الطريق للخطط العسكرية التي ستستخدمها الحركة الصهيونية لتثبيت وجودها على الأرض الفلسطينية.
التأسيس الصهيوني.. من «النكبة» إلى تأسيس الدولة
ومع بداية الأربعينيات، وبالاستناد إلى هذه القواعد السياسية والعسكرية، تمكنت الحركة الصهيونية من تأسيس دولتها في عام 1948م، هذا التأسيس كان مشفوعًا بحروب نكبة فلسطينية استهدفت الشعب الفلسطيني مباشرةً، حيث جرى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم.
دافيد بن غوريون، الذي أصبح أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، قاد دولة الاحتلال في مراحلها الأولى، وظل يعتقد أن القوة العسكرية الطريق الوحيد لتحقيق الأهداف الصهيونية، في هذا السياق، برزت الإستراتيجية الصهيونية التي تعتمد على التطهير العرقي للحد من وجود الفلسطينيين في مناطقهم الأصلية.
مقاومة الفلسطينيين.. من الكفاح المسلح إلى النضال الفكري
إلى جانب هذا التوسع الاستيطاني، برزت المقاومة الفلسطينية التي كانت ولا تزال جزءًا أساسيًا من تاريخ المنطقة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، قاد الشيخ عز الدين القسام، أحد أبرز رموز المقاومة الفلسطينية، الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني.
فالقسام، الذي استشهد في عام 1935م، كان يرى أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد للدفاع عن الأرض في وجه الهجرة اليهودية المتزايدة، وعلى الرغم من ملاحقة الاحتلال له، فإن استشهاده كان بداية لمرحلة جديدة من الكفاح ضد الاحتلال؛ ما أطلق الشرارة للمزيد من الأعمال المقاوِمة من قبل الفلسطينيين.
من المقاومة العسكرية إلى المواجهة الفكرية
لم تكن المقاومة الفلسطينية مقتصرة على الأسلحة فقط، بل كانت أيضًا فكرية، تعبيرًا عن رفض الاحتلال الصهيوني في جميع جوانبه، ومن أبرز هذه الشخصيات كان المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي جادل في كتابه «الاستشراق» حول الطريقة التي استخدم فيها الغرب، بما في ذلك الحركة الصهيونية، الأدوات الفكرية لإضفاء شرعية على احتلالهم لفلسطين، سعيد كان يؤمن بأن الاستعمار الغربي والصهيوني كان يتداخل بشكل كبير مع مشاريع الهيمنة الثقافية والسياسية التي سعت إلى طمس الهوية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
من جهة أخرى، لا يمكن نسيان نضال الشخصيات العالمية مثل المهاتما غاندي الذي عارض الفكرة الصهيونية من منطلقات أخلاقية وإنسانية، غاندي، الذي خاض نضالاً طويلًا ضد الاستعمار البريطاني في الهند، كان يرى أن حقوق الشعب الفلسطيني لا تختلف عن حقوق أي شعب آخر في تقرير مصيره، هذه الرؤية العادلة تلاقى فيها مع نيلسون مانديلا الذي كان يعتبر القضية الفلسطينية جزءًا من كفاح الشعوب ضد الأنظمة العنصرية، فموقف مانديلا كان يرتكز على مبدأ أساسي «الحرية لفلسطين هي جزء من حرية العالم كله».
الصراع المستمر.. الاحتلال والمقاومة
إن الجدلية بين الحركة الصهيونية والمقاومة الفلسطينية تمثل بحد ذاتها محركًا أساسيًا لفهم الصراع العربي «الإسرائيلي»، ففي حين تسعى الحركة الصهيونية إلى ترسيخ وجودها في فلسطين عبر القوة العسكرية والسياسية، تعمل المقاومة الفلسطينية على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، والتمسك بالهوية الوطنية، هذا الصراع ليس محصورًا في الأراضي الفلسطينية فقط، بل يمتد إلى الساحة الدولية حيث تتشابك المصالح والأيديولوجيات.
وفي نهاية المطاف، يشكل هذا الصراع جزءًا من كفاح الإنسانية ضد الاستعمار والعنصرية؛ ما يجعل القضية الفلسطينية قضية حية لا تتوقف عن إثارة النقاشات العالمية، سواء من خلال المقاومة العسكرية أو الفكرية، أو من خلال الدعم الدولي المقدم للشعب الفلسطيني في مختلف الميادين، فالمقاومة الفلسطينية، منذ البداية وحتى اليوم، هي الترجمة الحقيقية لإرادة شعب رفض الاستسلام لأي محاولة لتغيير هويته أو تصفية قضيته.