بدهي أن يحتاج الناس إلى التواصل الحضاري من أجل إشباع الحاجة الفطرية إلى الاجتماع بالناس، وتبادل المنافع وقضاء الحوائج وتيسير الأمور، لكن هذا التواصل قد لا يجيد البعض أدواته، أو يستخدمون فيه أدوات ووسائل لا تحقق الهدف منه أو قد تفسده في بداية مسيرته.
وقد حمل الفكر الإسلامي الرشيد العديد من الوسائل التي تسهم في نجاح التواصل الحضاري وتحقيق الغاية منه، منها:
أولاً: التعارف:
يعد التعارف بين الناس من الوسائل المهمة في التواصل بين الحضارات، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فقد بينت الآية الكريمة وحدة الأصل الإنساني، وتنوع الفروع المنبثقة عن هذا الأصل، ثم دعت هذه الفروع إلى التعارف المبني على الأصل الواحد، حيث لا يتم التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم إلا إذا مُحيت التفرقة العنصرية محواً تاماً، فلا تفرقة بالجنس ولا بالعنصر ولا باللغة(1)، ولهذا دعا الإسلام إلى إعلاء قيمة التعارف المتبادل، وتبني ثقافته نهجًا وطريقًا إلى تحقيق التواصل بين الحضارات.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التعارف الذي يحقق الألفة والصلة بين الناس، حيث روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ».
ويسهم التعارف في مواجهة الصراع بين الحضارات، حيث يساعد في الكشف عن الحقائق وإيضاح الأمور، كما يسهم في إثراء الثقافات وتبادل الأفكار والخبرات في شتى الميادين الحياتية.
ثانياً: التعاون:
نادى الإسلام بضرورة تقديم العون لكل إنسان، لا سيما الضعفاء والأشخاص الأكثر حاجة وعَوَزًا، وفيه قال الله عز وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثال في التشجيع على التعاون مع الناس من أجل تحقيق مبادئ وقيم التواصل الحضاري، ففي السنن الكبرى للبيهقي، عن طَلحَةَ بنِ عبدِاللهِ بنِ عَوفٍ، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَد شهِدتُ في دارِ عبدِالله بنِ جُدعانَ حِلفًا، ما أُحِبُّ أن لي به حُمْرَ النَّعَمِ، ولو أُدعَى به في الإسلامِ لأجبتُ».
والناظر في واقع الناس يجد أن التعاون فيما بينهم يسهم في بناء المشروعات الحضارية الكبرى، لأن الأعمال الكبرى لا تتحقَّق إلاَّ عن طريق العمل المتعاون(2)؛ ولهذا فإنه من الواجب على أبناء الحضارات المختلفة أن يتوحدوا ويعملوا معاً؛ لأن متغيرات العصر المتسارعة وأحداثه المتلاحقة جعلت من الأمور الملحة ضرورة التعاون لمواجهة الأخطار المحدقة بعالمنا المعاصر(3).
ولذلك فقد أكد الإسلام ضرورة تبنِّي التعاون المشترك سبيلاً إلى تحقيق الأفضل في كل شيء، فالتعاون يؤدي إلى تعزيز العلاقات الاجتماعية وتقوية الروابط والتواصل الفعال، كما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين المهارات الاجتماعية وبناء الثقة بين أفراد المجتمع.
ثالثاً: الحوار:
يعد الحوار من أهم وسائل التواصل بين الحضارات، بل إن الحوار المدخل إلى نجاح هذا التواصل، وتحقيق الإفادة للناس، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثال في تنفيذ الحوار مع الآخرين، وبيّن مدى فاعلية هذا الحوار في نشر الدعوة الإسلامية، ففي دلائل النبوة للبيهقي أنه قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ فَوَجَدُوهُ فِي الْمَجْلِسِ فَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ.
وقد بينت المبادئ الإسلامية أن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر جزءًا كبيرًا من البشر، حيث إن الحوار من شأنه أن يبرز القواسم المشتركة بين الحضارات والأديان، ومن شأنه أن يعمل على التوصل إلى كيفية تحقيق القيم المشتركة في سياق كل حضارة على حدة.
وهو الذي يستطيع أن يبرز الصورة الصحيحة للعلاقات الغربية الإسلامية، وبذلك يمكن القضاء على المفاهيم الخاطئة والأحكام المسبقة بينهما، والتخلص من صورة العدو المتبادلة على كلا الجانبين، من خلال نقل المعلومات الصحيحة عن حضارة كل منهما للرأي العام عن طريق التعليم ووسائل الإعلام، وذلك على مستوى كل مجالات الحياة(4)، فالحوار يسهم في صناعة التواصل البنّاء بين الحضارات المتنوعة.
_____________________
(1) المجتمع الإنساني في ظل الإسلام: الشيخ محمد أبو زهرة، ص 53-54.
(2) الأخلاق الإِسلامية وأسسها: د. عبدالرحمن حسن الميداني، (2/ 172).
(3) الدين للحياة: د. محمود حمدي زقزوق، ص 196- 197.
(4) المرجع السابق، ص 198.