يتميز التشريع الإسلامي بالشمول والاستيعاب لكل نواحي الحياة، فلا تغيب عن أحكام الإسلام حادثة واحدة، ذلك أن النظام الإسلامي وضع الأسس والأركان والضوابط والمقاصد التي تحكم جميع شؤون الحياة، فما لم يرد فيه النص الصريح بالقبول أو الرفض؛ ورد فيه الحكم بالقياس أو من خلال مراعاة المصالح العامة للناس، ومن أهم أبواب مراعاة مصالح الناس وإدارة شؤونهم باب السياسة الشرعية.
تطلق السياسة على التدبير والتصرف فيما يصلح الأمور، قال ابن منظور: السياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه(1)، يقال: ساس الأمر سياسة: أي قام به، وساس الرعية: إذا ولي حكمها وقام فيه بالأمر والنهي وتصرف في شؤونها بما يصلحها.
وكلمة الشرعية منسوبة إلى الشريعة، وهي تعني: ما شَرَعَ الله لعباده من الدين(2)؛ أي الأحكام والقوانين التي شرعها الله لعباده لضبط شؤونهم في جميع نواحي الحياة.
وتنوعت التعريفات التي تناولت مفهوم السياسة الشرعية، تبعاً لتنوع الروافد والمقاصد التي تعبر عن أصحاب هذه التعريفات، فالفقهاء يضعون لها تعريفات، قد تتفق أو تختلف مع تعريفات القانونيين والقضاة والاقتصاديين والإداريين والساسة وغيرهم، إلا أننا نحاول هنا أن نقف على بعض التعريفات التي تستوعب جميع النواحي المتعلقة بالسياسة الشرعية أو أغلبها، ومن ذلك ما يأتي:
أولاً: يرى ابن نجيم الحنفي أَنَّ السِّيَاسَةَ هِيَ: فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَاكِمِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلِيلٌ جُزْئِيٌّ(3)؛ ففي هذا التعريف تأكيد أن السياسة هي تصرفٌ من الحاكم وفق مصلحة يراها مناسبة لرعيته، وإن لم يكن هناك دليل خاص من القرآن أو السُّنة على هذا التصرف، غير أن هذا التعريف لم يقيد فعل الحاكم بعدم مخالفة الشرع؛ لأن الحاكم قد يفعل لرعيته فعلاً مخالفاً للشرع، وحينئذ لا يكون هذا من باب السياسة الشرعية.
ثانياً: يرى ابن عَقِيلٍ الحنبلي أن السِّيَاسَة هي: مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ(4)؛ وهذا التعريف قريب من سابقه، كما أنه لم يحدد من تصدر عنه السياسة.
ونرى أن السياسة الشرعية هي الأحكام والتنظيمات الصادرة من ولي الأمر فيما يتعلق بإصلاح شؤون الرعية، وفق قواعد الشريعة ومقاصدها.
في المصادر الإسلامية
أوضح الإمام يوسف القرضاوي أن كلمة «السياسة» لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفاً أو فعلاً، ومن قرأ «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» يتبين له هذا، ولهذا لم يذكرها الراغب في «مفرداته»، ولا «معجم ألفاظ القرآن» الذي أصدره مجمع اللغة العربية.
وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلاً على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها، ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن.. فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ «السياسة» جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة «المُلك» الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم، جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتَّى، بعضها مدح، وبعضها ذم، فهناك المُلك العادل، وهناك المُلك الظالم، المُلك الشُّورِي، والمُلك المستبد(5).
أما السُّنة النبوية الشريفة فقد جاءت فيها كلمة السياسة، ففي الحديث المتفق عليه عَن أبي هريرة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».
وأورد ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن حُصَيْنٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حِينَ يَسُوسُ أَمَرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6).
وفي تاريخ الطبري قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية بن أبي سفيان: إني وجدته ولي عُثْمَان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الْحَسَن السياسة، الْحَسَن التدبير(7).
ففي هذه الأقوال وغيرها من التوجيهات التي امتلأت بها كتب التراث الإسلامي ما يؤكد أن السياسة باب من أبواب الدين وفرع من فروعه، بها تنصلح أحوال الرعية وتستقيم أوضاعهم، أما إنكار هذا الباب، والزعم بأنه غير موجود في الإسلام فهو خطأ ومخالف للتعاليم الإسلامية.
وفي ذلك يقول ابن القيم: هَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ، وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ، وَمُعْتَرَكٌ صَعْبٌ، فَرَّطَ فِيهِ طَائِفَةٌ، فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّءُوا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ(8).
_____________________
(1) لسان العرب (6/ 108).
(2) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: الجوهري (3/ 1236).
(3) البحر الرائق (5/ 11).
(4) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ابن القيم الجوزية، ص 12.
(5) الدين والسياسة: د. يوسف القرضاوي، ص 13.
(6) مصنف بن أبي شيبة (6/ 410).
(7) تاريخ الطبري (5/ 68).
(8) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص 13.