تمثل الحكمة في الإسلام قيمة عظيمة ومبدأ أصيلاً، حيث إن خلاصة الحكمة أن تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتتمة كل شيء كما يرضي الله ورسوله، وتحكيم العقل والعلم والأخلاق والثوابت في الأمور كلها.
والحكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، مشتقة من الحكمة؛ وهي ما أحاط بحنكي الفرس حتى يمنعه من الجماح؛ سميت بذلك؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل، وأحكم الأمر؛ أي أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد، أو منعه من الخروج عما يريد.
في التشريع الإسلامي
وقد وردت الحكمة في كتاب الله بلفظها في آيات عدة، حيث أشاد الله عز وجل بفاعلها ومن أتاها وتحلى بها؛ فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: 269)؛ يقول السعدي: إن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيراً كثيراً، وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين، والنجاة من شقاوتهما؟! وفيه التخصيص بهذا الفضل، وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة؛ إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية، فتكميل قوته العلمية؛ بمعرفة الحق، ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية؛ بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك(1).
وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12)؛ يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان بالحكمة، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالـماً، ولا يكون حكيماً(2).
وعن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (رواه البخاري، ومسلم).
وعن ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الحكمة» (أخرجه البخاري)، وقال ابن حجر: اختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا، فقيل: القرآن، وقيل: العمل به، وقيل: السُّنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة(3).
ثمارها على الفرد والمجتمع
1- هي أول طريق معرفة الله تعالى، فمعرفته سبحانه لا ينالها إلا ذو عقل واع وقلب متطلع للوصول للحقيقة.
2- هي طريق الأنبياء والصالحين والعلماء، فلا تكاد تجد صاحب راية حق إلا وهو حكيم عاقل.
3- تأخذك مباشرة للهدف الموضوع مسبقاً، لا كما تريد الظروف والأهواء، يقول أبو القاسم الجنيد بن محمد، وقد سئل: بم تأمر الحكمة؟ قال: تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره، ويطيب عند جملة الناس خبره، ويؤمن في العواقب ضرره(4).
4- ترفع من شأن صاحبها وتحفظ له مكانته، فعن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض كتب الله أن الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك(5).
5- تحفظ المجتمع من الأحقاد والكراهية حين توضع الأمور في غير مواضعها فيقع الظلم على البعض.
6- تحفظ الإنسان عن ارتكاب السوء أو التلفظ به، أو ارتكاب المحذورات، أو التجني على الغير، أو عمل ما يضطره للاعتذار وطلب العفو.
موانع اكتسابها
1- بعض الصفات الشخصية التي يستسلم لها المسلم دون أن يحاول معالجتها في نفسه، منها العجلة في اتخاذ القرارات وفي تنفيذها تبعاً لشهوته أو هواه.
2- الإعراض عن استشارة أهل الخبرة، واستخارة الله تعالى، فيأخذ المسلم قراراته من ذاته دون علم أو خبرة أو تجربة.
3- الإعراض عن وضع الخطط المستقبلية قصيرة وطويلة المدى، واعتماد مبدأ السير بعشوائية فيتحول الأمر لفوضى دون حكمة تسيره.
4- الاكتفاء بوضع الأقدام دون النظر فيما بعد، فتظل الخطوات ثقيلة والنتائج فاشلة.
5- الاكتفاء بمبدأ الثقة دون الخبرة والعلم.
وسائل اكتسابها
1- العلم من أهم سبل الوصول إلى الحكمة، والعلم المشار إليه هو علوم الشريعة والعقيدة والتفقه في الدين ومعرفة مقاصد الشريعة والغرض من النصوص.
2- عبادة الله عز وجل حق العبادة، والتنزه عن الوقوع في معاصيه سبحانه، والإسراع بالتوبة والرجوع إليه عز وجل.
3- مخالطة الصالحين وأهل الحكمة والرأي والتعلم منهم والإنصات إليهم، يقول ابن الجوزي: لكل باب مفتاح، ومفتاح الحكمة: طرد الهوى(6).
4- التعلم من الأخطاء وعدم تكرارها، فكل فشل في الحياة يولد خبرة، فهو طريق آخر للنجاح، وفي الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» (رواه البخاري، ومسلم).
5- أن يتعلم المسلم الصمت أكثر مما يتعلم الكلام، وقد قال عمر بن عبدالعزيز: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت، ويهرب من الناس، فاقتربوا منه؛ فإنه يلقى الحكمة(7).
وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا خالد يقول: تحضر الحكمة بثلاث: الإنصات، والاستماع، والوعي، وتلقح الحكمة بثلاث خصال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت(8).
ومن أعظم نماذج حكمة، هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونسوق هنا نموذجاً واحداً من تلك الروائع الإنسانية له عليه الصلاة والسلام، وذلك يوم الحديبية حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهم».
ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله..» (أخرجه البخاري).
______________________
(1) تفسير السعدي، ص115.
(2) المرجع السابق، ص648.
(3) فتح الباري، ابن حجر (1/ 170).
(4) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم (13/ 261).
(5) الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه، أبو هلال العسكري، ص50.
(6) التبصرة، ابن الجوزي (1/ 396).
(7) المرجع السابق (2/ 289).
(8) المرجع السابق.