صورة العرب في الثقافة الغربية عامة، وفي الثقافة الأمريكية على وجه الخصوص، هل هي الصورة المصدرة إلينا عبر إعلامنا العربي والمتمثلة في موقف الحكومات الغربية من قضايانا العامة والخاصة ومنها ما يحاك للقضية الفلسطينية من تآمر وتعاط بأكثر من وجه، علاوة على مسألة العولمة التي تكيد ليل نهار لفرض هيمنة ثقافية على عالمنا العربي والإسلامي، بل وبعض بلدان الغرب نفسها لفرض وجه واحد للثقافة على العالم وهي الثقافة الأمريكية أحادية الرؤية والفكر والهوية المادية؟ أم أنها رؤية أخرى مثلتها الشعوب التي انتفضت وما زالت منتفضة حتى اليوم لتتغير الصورة النمطية للعربي بقضيته الإستراتيجية بصورة المظلوم والواقع تحت نير العنف الصهيوني والانحياز غير المبرر من الحكومات الغربية؛ أي أن هناك تمايزاً وتضاداً في الثقافة الغربية بصورة نسبية بين الشعوب الغربية وحكوماتها؟
كيف يرى المثقفون الأمريكيون قضايانا؟
حالة من الغموض الإعلامي العربي تجاه النظرة للمسلم العربي في الثقافة الأمريكية، ولا يختلف الأمر كثيراً في الإعلام الأمريكي الذي يقوم بإظهار المواقف الرسمية فقط من القضايا العربية والإسلامية خاصة في منطقة الشرق الوسط حيث الكيان الذي غرسه الغرب في قلب العالم العربي، ويعتبره ابناً رسمياً له، حيث تتعامل الأنظمة بنظرة استعلائية تجاه العالم العرب.
ويتناول د. سعد البازعي، الناقد والمفكر والمترجم سعودي، تلك المسألة بتفاصيل يقول فيها: حين نتحدث عن الموقف الأمريكي تجاه القضايا العربية، خاصة الصراع مع «إسرائيل»، فإن الحديث غالباً ما ينحصر في الموقف الحكومي الأمريكي، دون أن يشير إلى مواقف تعبر عنها شرائح أخرى في المجتمع الأمريكي، سواء كانت اقتصادية أم إعلامية أم ثقافية.
فالاقتصاد والإعلام ليسا غائبين تماماً عن الوعي العربي كما تعكسه وسائل الإعلام العربية من خلال الأخبار أو من خلال ما ينشره الكُتَّاب في تلك الوسائل، فما تبثه الوكالات الغربية وتنشره الصحف يدخل الوعي الشعبي والنخبوي العربي وإن كان على مستويات متباينة.
ويضيف: ما يغيب غالباً هو الناحية الثقافية والفكرية، فقليلاً ما نسمع رأياً صادراً عن مفكر أو كاتب شهير حول العرب وصراعهم مع «إسرائيل».
ولعل جزءاً من ذلك يعود إلى أن أولئك المثقفين بعيدون فعلاً عن وسائل الإعلام التي يمكن أن تنقل آراءهم، أو أنهم ليسوا مشغولين بتلك القضايا، على الأقل على المستوى العام، أي أن آراءهم ليست مما يحرصون على بثه على الناس(1).
وما يشير إليه الكاتب هنا أن هناك نوعاً من التعتيم المتعمد تجاه آراء المفكرين والأدباء والمنظرين تجاه نظرتهم نحو منطقة الشرق الأوسط؛ مما يوحي بأن هناك تبايناً واختلافاً في التعاطي يدفع الأنظمة السياسية لصناعة ذلك التعتيم وحجب الآراء كي لا تصل لجهات ما، وبما أن المسلم صاحب فكرة «عالمية الثقافة»، التي تختلف اختلافاً كلياً عن فكرة العولمة، ومن ثم فعليه أن يبحث عن معرفة صورته لدى الآخرين كي يتسنى له الانطلاق من خلالها في دعوته ومهمته المنوط به إتمامها كونه مسلماً، إما ليعمل على تغيير الصورة وتحسينها وتصحيحها، أو تأكيدها إن كانت تعبر عن حقيقته النابعة من دينه ورسالته.
والذي يهم المسلم في هذا الخضم، ليس موقف الأنظمة فهو يخضع لعوامل تصنعها المصالح الاقتصادية والسياسية، وإنما الذي يهم هو معرفة موقف المثقفين وعوام الناس، فتلك المعرفة هي التي سوف يترتب عليها العمل الدعوي المستقبلي وتحديد الوسائل المختلفة لتبليغ دين الله، والفكر الإسلامي عموماً.
وأما عن أهمية معرفة وجهة نظر المثقفين على وجه الخصوص؛ فذلك لأنهم هم من يحركون المجتمعات فكرياً، هم العقل المفكر لأي مجتمع، وقد تشكل جزءاً كبيراً من الثقافة المجتمعية في الغرب عن طريق المنتح الأدبي عبر كتابات الفلاسفة والمفكرين وما تحول منها لروايات سينمائية ومسرحيات وقصائد.
وأحد الذين أثروا في الثقافة الغربية الفيلسوف الألماني ليوشتروس(2)، الذي أثر بأفكاره الصهيونية في تلاميذ كثر يقول عنهم د. البازعي: إن الكثيرين ممن تبوؤوا مناصب في إدارة جورج بوش ممن يعرفون بالمحافظين الجدد وتركوا أثراً واضحاً لعل أبرزه حرب العراق، كانوا من تلامذة ستروس الذي تنسب إليه أفكار تناقض الديمقراطية وتدعو إلى هيمنة الأقلية، إلى غير ذلك.
ولم يخف الذين كتبوا عن ستروس أنه يهودي في ربط واضح لأفكاره بموقعه الإثني والاجتماعي؛ أي بكونه يسعى إلى تعزيز موقع اليهود في النظام الأمريكي (وكان معظم تلامذة ستروس المشار إليهم، مثل ولفوتز، وألان بلوم، يهوداً بالفعل).
فقد كان ذلك المفكر ممن تركوا ألمانيا في الثلاثينيات لاجئاً إلى الولايات المتحدة حيث أقام وعمل في مجال التدريس الجامعي بوصفه أمريكياً حتى توفي عام 1973م(3)، لقد ترك ستروس ومن على شاكلته من الكتَّاب والمفكرين الذين يحملون في ذاكرتهم ما يسمى بالنازية واضطهاد اليهود ليسوقوها كثقافة استطاعوا بصورة ما أن يفرضوها على الغرب الأمريكي ليتبناها المجتمع كقضية مسلَّم بها لتصير ثقافة الوجود «الإسرائيلي» حقاً مكتسباً لليهود، ويصير ما يمارسونه من عنف غير مسبوق في التاريخ صورة من صور الدفاع عن النفس.
وبالرغم من تغير تلك الثقافة، فإن الأمور بدأت تتغير بنسبة ضئيلة على المستوى الشعبي بعد حرب «طوفان الأقصى» واستماع الرواية الفلسطينية ومتابعة جرائم الحرب التي تبث على مدار الساعة.
الثقافة العربية في نظر الثقافة الغربية
إن النظرة الغربية للثقافة الإسلامية هي نظرة معقدة حيث تتداخل فيها عوامل عدة منها عوامل تاريخية وأخرى سياسية وأخرى إعلامية ومن العوامل التي أثرت في تشكيل صورة الثقافة الإسلامية عند الثقافة الغربية:
1- الحروب الصليبية: حيث شكل العداء التاريخي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية المتمثلة في الفتح الإسلامي لبعض الدول الأوروبية وما تكوّن على أثرها من حضارة ببلاد الأندلس، فكانت صورة الإسلام على أنه المهدد الأول للحضارة الأوروبية وسلطة الكنيسة على وجه الخصوص.
2- عصر النهضة: مثَّل عصر النهضة الأوروبية نوعاً من التقارب الثقافي والحضاري بين مفكري الغرب والمسلمين؛ حيث ساهمت الحضارة الإسلامية في الأندلس في وضع أساس النهضة الأوروبية بما تركته من تراث علمي لا يقدر؛ وذلك في كافة العلوم الإنسانية والعلوم البحتة.
3- ظهور ما يسمى بـ«الإسلاموفوبيا»: وظهرت تلك الحركة وترسخت في المجتمع الأوروبي خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم صعود اليمين المتطرف في أوروبا؛ لتترسخ صورة العنف وترتبط بالثقافة الإسلامية والرجل العربي.
4- الهجرة وحركة الاستشراق: بعد الهجرة المتزايدة للعرب والمسلمين للغرب الأوربي والأمريكي لتلقي العلم والبحث عن فرص عمل وأنماط أفضل للحياة، وقد أثبت المسلمون بعد انخراطهم في الحياة الأوروبية ونجاحهم بشكل كبير في صنع جاليات متميزة، ساهم ذلك في تغيير الصورة الذهنية عن المسلمين بشكل جزئي.
5- «طوفان الأقصى»: مثلت نقطة تحول كبيرة في الثقافة الغربية، ومن المفارقة أن يظهر من بين هؤلاء المتحولين ثقافياً يهود من شتى أنحاء العالم رافضين للمحرقة التي تتم في قلب العالم العربي وتتغير الصورة النمطية للمسلم، وتفرض الحرب سردية أخرى غير تلك السردية الوحيدة التي كان يسمع إليها العالم ويعترف بها.
ومما سبق ندرك أن هناك إمكانية وفرصة كبيرة لتصحيح الصورة الثقافية العربية والإسلامية لدى الثقافة الغربية، شرط أن تتوافر هناك إرادة عامة للأمة في تحسين تلك الصورة، وأن يعمل عليها علماء وأدباء ومفكرون حيث تتضافر الجهود للوصول للنتائج المرجوة.
ومبدئياً، يمكن أن يقوم بتلك المهمة مسلمون اضطرتهم الأوضاع للهجرة للتعايش المجتمعي في بلاد الغرب بالتسويق الجيد للقضية الفلسطينية، وتوضيح الصورة القبيحة للمحتل وفضح ممارساته، واستثمار أجواء الحرية المحدودة تجاه تلك القضية، وذلك حتى تتهيأ الأمة لتلك المهمة وتتعافى من أمراضها الخطيرة ومن ذلك المنحنى الذي تمر به.
___________________
(1) من كتاب الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف للدكتور سعد البازعي، ص 230.
(2) فيلسوف وسياسي ألماني أمريكي متخصص في الفلسفة السياسية الكلاسيكية، وُلد في ألمانيا لأبوين يهوديين، ثم هاجر لاحقًا من ألمانيا إلى الولايات المتحدة، قضى معظم حياته المهنية كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو، حيث قام بتدريس عدة أجيال من الطلاب ونشر 15 كتابًا.
(3) كتاب ثقافة الاختلاف، ص 234.