لماذا يصنف العرب والمسلمون ضمن دول العالم الثالث؟ من أين جاء هذا المصطلح؟ أين العالم الثاني؟ ما مواصفات العالم الأول؟ كيف نوقف تلك النظرة الدونية للعقل العربي؟ تساؤلات تطرح نفسها، ونحن عن جهل نستخدم مصطلح العالم الثالث بإسهاب، وكأنه حقيقة كونية لا يمكن الفكاك منها.
إن الدونية تبدأ من هنا، حين نذعن للآخر، ونستخدم مفرداته، دون إدراك أو وعي، بل نستسلم لها، وقد نستعذبها؛ إما رضاء بالواقع، أو عجزاً عن التغيير، أو استسلاماً لمصطلح فرضه علينا الغرب باحتلاله وقمعه وجبروته على مدار عقود وقرون.
ربما الأمر في حاجة إلى ضبط وتصويب، وإعادة الحق لأهله؛ لأن من علَّم البشرية، وأخرجها من الظلمات إلى النور، كان المسلمون الأوائل، ومن سار على دربهم، فكانت الفتوحات من مشارق الأرض إلى مغاربها، تشيد حصون حضارة عريقة يشهد لها العدو قبل الصديق، وتمتد من منتصف القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
تحديداً كان عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ألفريد سوفيه هو أول من طرح المصطلح المسيء «العالم الثالث»، حين كتب مقالته الشهيرة «ثلاثة عوالم، كوكب واحد» في مقال نُشر في صحيفة «L’Observateur» الفرنسية في عام 1952م، وكان يعني بتصنيفه أن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية يشكلون العالم الأول، وأن الكتلة الشيوعية التي تضم الاتحاد السوفييتي والصين هم العالم الثاني، بينما يقبع العرب والمسلمون في ركب العالم الثالث.
التصنيف صادر عن أحد أبناء وعقول واحدة من الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، حيث احتلت فرنسا 63 منطقة حول العالم، ونهبت ثرواتها، وقمعت شعوبها، وقتلت خيرة أبنائها، ولا يزال احتلالها باقياً إلى الآن في بعض المناطق، فهل تعتقد أن محتلاً سيعبأ بنا، وينظر إلينا نظرة عادلة، أم ستظل الدونية شعاره ولغته ونهجه في التعامل معنا؟
يقول الأكاديمي بكلية الطب بجامعة هارفارد د. أبرار كران: «كان هناك مضطهِدون ومضطهَدون»، الطرف الأول هو الغرب البغيض الذي سلب عديد الشعوب حريتها ووطنها وكرامتها ولغتها وثقافتها ودينها، والطرف الثاني هو من وقع عليه الاحتلال، وصار أسيراً يرزح تحت قيود العبودية والتبعية والتغريب والفرنسة والجلنزة والأمركة، حتى لو تحرر شكلياً، فما زال يستورد غذاءه ودواءه وسلاحه من محتليه سابقاً.
لم يعد التصنيف مجرد كلمة صكها زورواً وبهتاناً عالم فرنسي، بل تحولت إلى تصنيف سياسي، ترتبت عليه نتائج وتداعيات كارثية، على جميع المستويات، فقد جرى إقصاء من تم تصنيفهم ضمن «العالم الثالث» أو تهميشهم في جميع المنظمات والمؤسسات الدولية؛ مجلس الأمن نموذجاً، والأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، وغيرها من منظمات تحظى بصفة الدولية، وهي تمثل وجهاً حداثياً للقوى الاستعمارية الكبرى، تحت مظلة ما يسمى بـ«القانون الدولي».
هذا «العالم الأول» هو الذي يدك الأبرياء في غزة، للعام الثاني على التوالي، وهو الذي يمول آلة الحرب الدموية التي تغتال الأطفال والنساء والشيوخ، وهو الذي يحمي بسلاحه وقراراته مجرمي الحرب الصهاينة؛ ولمَ لا؟! فهم يقتلون أناساً ينتمون لـ«العالم الثالث» لا يستحقون الحياة، أو حق تقرير المصير، أو الديمقراطية التي باتت حكراً على شعوبهم، بينما يمول ويدعم ويساند الاستبداد والانقلابات في بلادنا.
وهذا «العالم الأول» هو من يستنزف العقول والكفاءات النادرة لدينا، فيجنس أبناءنا من العلماء والأطباء والمهندسين والمخترعين ولاعبي الكرة وغيرهم، فيحصد بهم الإنجازات والبطولات والجوائز العالمية، بينما هو يكرس في عقول أبناء «العالم الثالث» أو «العالم النامي» صورة نمطية تحت عباءة لفظية، توحي بالكسل والخمول والتراجع والتخلف.
إن تسمية «العالم الأول» لا تعني أنه الأفضل، نعم ربما يكون الأول في الإنتاج، في التصدير، في السلاح، في الدخل، وغير ذلك من مؤشرات اقتصادية وعسكرية، لكنه الأردأ والأسوأ أخلاقياً ومجتمعياً، وقد فشا فيه الانحلال والشذوذ والزنى والعنف والعنصرية والربا والمادية والإلحاد، بينما نحن نمتلك جميع مقومات النهوض والتحضر، ونستطيع أن نحيا من جديد لنقود العالم.
هذه التسمية تحتاج جدياً إلى مراجعة وتصويب، بعد أن بات القتل العشوائي سمة للغرب المتمدن، وهو ما بدا جلياً في العقود الأخيرة، خلال حروبه في العراق وأفغانستان وسورية ولبنان وفلسطين، ودعمه الفوضى في ليبيا والسودان واليمن، وتأييده للانقلابات العسكرية، وما ارتكبه من إجهاض لثورات «الربيع العربي»، حتى لا تنتقل أوطاننا إلى مربع العالم الأول.
قد تختلف المسميات، من العالم الثالث، إلى العالم النامي، إلى دول الجنوب، والأقل دخلاً، لكن تظل الحقيقة واضحة للعيان، أن وضعية الدفاع فُرضت قسراً على العرب والمسلمين، بشكل يظهر العقل العربي في صورة دونية وضعيفة وعاجزة، مقابل صورة جرى ترسيخها بفوقية واستعلاء الآخر، وسط انبهار من لا هوية لهم بالعقل الغربي.
عقل في مواجهة عقل، لا ينقصه شيء، سوي إيمان بذاته، إدراك لما يحاك له، وعي بما يريد، تخطيط لمستقبله، سعي إلى أهدافه، إخلاص في مهامه، ومن وراء ذلك، دين يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهوية عريقة، ولغة ثرية، وثروات وفيرة، ومزايا طبيعية لا تقارن، تجعله ليس فحسب ضمن مصاف العالم الأول، بل قائداً ومحركاً له.