د. يحيى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أكتب إليكم وقد أعيتني الحيل وضقت ذرعاً من كذب أولادي، فأنا أُم لولدين؛ أحدهما يبلغ 11 عاماً، والآخر 9 أعوام، وابنة 6 سنوات، الحمد لله زوجي رجل مصلٍّ وعلى خلق، لكن أحياناً على سبيل المزاح يفتعل حدثاً على غير الحقيقة ليضفي شعوراً من البهجة والمرح بالمنزل، ويحرص على أداء الصلاة بالمسجد بصحبة الأولاد.
مشكلتنا هي كذب الولدين، حتى البنت الصغيرة تعلمت منهما الكذب، وأحياناً لا يقتضي الأمر؛ فهم يكذبون للكذب، أنا أعلم أنها آفة خطيرة، وقد حاولت أنا ووالدهم بالعقاب حتى البدني، ولكن للأسف ليس هناك أي استجابة، فقدت الثقة فيهم، وأصبحت أشك في كل قول أو فعل، وأظل أحقق وأبحث حتى أصل إلى الحقيقة، جلسات التحقيق والاستجواب أصبحت نمط حياتنا، هل من نصيحة؟
التحليل
حذرنا المولى عز وجل من الكذب، ولم يأمرنا بالصدق فقط، بل وأن نكون من الصادقين، الصدق من أعظم القيم الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام، فهو أساس الفضائل ومفتاح الخير، وله مكانة عظيمة في القرآن الكريم، وقد وصف الله جل شأنه قوله بالصدق: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران: 17)، (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً) (النساء: 87)، (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) (النساء: 122)، (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة: 119)، (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (الزمر: 33).
يجب تعريف الأولاد بحسب إدراكاتهم العقلية إثم الكذب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجلَ ليصدُقُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ صدِّيقاً، وإنَّ الكذِبَ يَهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يَهدي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجلَ ليكذِبُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ كذَّاباً».
كذب الأولاد هو تصرف يقوم به الأطفال عندما يختلقون أو يشوّهون الحقيقة، وغالباً ما يكون بهدف تحقيق غرض معين، مثل تجنب العقاب أو كسب الاهتمام أو الحصول على شيء يرغبون به، وأنواع كذب الأطفال كثيرة، ولكن أهمها:
1- الكذب الخيالي: يحدث عندما يستخدم الطفل خياله لخلق قصص غير حقيقية، وغالباً يكون في الأطفال الصغار الذين لا يميزون بين الواقع والخيال.
العلاج: لا حرج ولا قيمة سلبية لأن يعبر الطفل عن خياله ومزجه بالواقع، ولكن بعد الثالثة تقريباً وعندما ينمو إدراك الطفل ببيئته، هنا يجب تصحيح حديثه وتعريفه ليتبين الفرق بين ما يتخيله والواقع دون زجره وتعنيفه، بل يجب أن يعاد صياغة حديث الطفل بحقيقة الواقع دون تكرار ما قاله من خياله.
2- الكذب الدفاعي: يحدث لتجنب العقاب أو الاعتراف بخطأ، قد يبالغ الوالدان في التهديد بالعقاب، ظناً منهما أن تغليظ العقوبة يحول بين الأولاد وفعل الخطأ، ولكن من الطبيعي أن يُخطئ الأولاد، ولكن الخوف من شدة العقاب تدفعهم للكذب.
العلاج: العقاب إحدى أدوات التربية، ولكن يجب مراعاة:
– لا عقاب قبل توليد القناعات لدى الأولاد بأهمية فعل (نظافة وتنظيم حجرته) / عدم فعل الكذب.
– مشاركة الأولاد في أسلوب العقاب الذي يجب أن يكون متدرجاً.
– الفصل الكامل بين العقاب والعلاقة الوجدانية مع الولد المعاقَب؛ أي يجب ألا ينعكس خطؤه على إحساسه بحبنا له، بل على سلوكه فقط.
– تطبيق الآية القرآنية: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود: 114).
3- الكذب للحصول على مكاسب: يستخدمه الأولاد لتحقيق هدف معين، مثل الحصول على شيء يريدونه.
العلاج: يجب تربوياً ألا يُستجاب لكل مطالب الأولاد حتى ولو كان لدى الوالدين القدرة على تلبية طلبات أولادهما، حتى يتعود الأولاد على ضبط احتياجاتهم، كذلك تدريبهم على الصبر لكبح شدة رغباتهم، وإدراك قبس من نِعَم ربنا عليهم، ويجب تذكرهم بذلك وتدريبهم عليه وتعليل لماذا المنع؟ فإذا اقتنعوا بأن المنع لمصلحتهم لم يلجؤوا إلى الكذب لتلبية رغباتهم.
على الوالدين تجنب وضع الأولاد في مواقف تدفعهم للكذب
4- الكذب بهدف جذب الانتباه: يحدث عندما يشعر الطفل بالإهمال ويريد لفت النظر إليه.
العلاج: إن نمو ورعاية الصحة النفسية للأولاد لا تقل عن الاهتمام بالصحة البدنية، يجب أن يحرص الوالدان على النمو والرعاية الوجدانية للأولاد، إن التعبير عن حب الأولاد من خلال الكلام الطيب والإشادة والتقدير والحضن والتقبيل ومصاحبتهم وقضاء وقت مناسب معهم بناء على قدراتهم الإدراكية واحتياجاتهم النفسية سواء باللعب أو بمناقشتهم في مستقبلهم وما يهمهم من موضوعات؛ مما يبعث الثقة في نفوسهم، ويفتح قنوات التفاعل بينهم وبين الوالدين، ويبني ثقتهم بأنفسهم؛ فلا يلجؤون إلى الكذب للفت الاهتمام بهم.
5- الكذب الانتقامي: قد يستخدمه الطفل للإضرار بشخص آخر بسبب شعوره بالغضب أو الظلم؛ مما قد يحدث ذلك النوع من الكذب عادة بين الأولاد الذين يغارون من بعضهم بعضاً، أو عندما يشعر أحد الأولاد بأن أخاه متميز عند والديه، فيحاول الانتقام منه بتلفيق خطأ له حتى يسقط تميزه عند والديه.
العلاج: إن العدل بين الأولاد فرض إلهي لما له من خير كبير في الدارين، ولعل من ثمار ذلك حب الأولاد لإخوتهم، كما أن مكافأتهم جميعاً إذا أحسن أحدهم، ومكافأة من يحسن لإخوانه، وغيره الكثير من الواجبات التي يجب أن يحرص عليها الوالدان لتعميق حب الأولاد لإخوتهم.
6- الكذب التقليدي: عندما يكتسب الطفل هذا السلوك من البيئة المحيطة، مثل الأصدقاء أو الأسرة، لعل هذا من أخطر وأكثر الأسباب لكذب الأولاد.
العلاج: يتحمل -والله هو العليم- الوالدان إثماً مضاعفاً بالكذب أمام الأولاد؛ إثم كذبهما وآثام كذب الأولاد، بتعودهما على الكذب؛ حيث إن الأولاد يفعلون ما نفعل، ولا يفعلون ما نأمرهم به، فسلوك الوالدين هو أول، بل وأهم مصادر التلقي التربوي، كما أن الأولاد لا يفرّقون بين كذب الهزل وكذب الجد، وكما هو معروف من الدين بالضرورة أن الكذب كذب في كل الأحوال هزلاً أو جداً، ولا يوجد كذب أبيض وكذب أسود! «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا صدقاً».
ويجب تعريف الأولاد بحسب إدراكاتهم العقلية إثم الكذب، ففي مرحلة الطفولة «الله يحب الصادق»، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصف بـ«الصادق الأمين»، ثم من النمو الإدراكي للأولاد نرتقي بمستوى إيمانهم بقيمة وأثر الصدق في حياة المسلم، وكذا آفة الكذب وسلبياته، كما أُوصي باستخدام القصص التربوية في مرحلة الصبا.
ضرورة تشجيع الأولاد على الصدق بل ومكافأتهم عليه
ماذا تفعل الأم لعلاج كذب أولادها؟
بالإضافة إلى ما سبق عليها وزوجها ما يلي:
– التوبة: التوبة إلى الله تعالى عما ارتكبه الوالد من آثام نتيجة مزاحه بالكذب وإعطائه نموذجاً سيئاً لأولاده، وكذلك الأم التي سكتت عن هذا الإثم العظيم، وتعتبر مُشارِكة له بعدم اتخاذها موقفاً حازماً تجاه زوجها وما اقترفه من آثام.
– القدوة: من المهم إعادة صياغة القدوة الحسنة، ولا حرج، بل يجب على الأب الاعتراف بخطئه أمام الأولاد، وأن يستغفر أمامهم، ويتعاهدوا جميعاً بالصدق.
برنامج تأهيلي للأولاد
– التثقيف الشرعي بقيمة الصدق.
– تشجيع الأولاد على كتابة بعض الآيات والأحاديث التي تحث على الصدق وتذم الكذب.
– تشجيع الأولاد على الصدق، وضبط الغيظ لخطئهم، بل ومكافأتهم لصدقهم.
– تجنب وضع الأولاد في مواقف تدفعهم للكذب، لا تسأل الطفل أسئلة تجعله يشعر أنه مضطر للكذب، مثل: «هل صليت؟» إذا كنت تعرف الجواب مسبقاً.
– التدرج في العلاج: كوني صبورة، ولا تتوقعي تغيير السلوك بسرعة، استخدمي الحوار والإرشاد المستمر.