تنتمي غالبية شعوب آسيا الوسطى إلى العرق التركي، كما أن لغاتها تنتمي إلى مجموعة اللغات التركية، وتعتبر منطقة آسيا الوسطى أو كما أطلق عليها العرب قديماً «بلاد ما وراء النهر»، وأطلق عليها الأتراك «تركستان» (أي بلاد الترك في آسيا الوسطى)، هي الموطن الأول للأتراك الذين انطلقوا منه إلى العالم الإسلامي وبقية أرجاء العالم، وقطنت هذه الشعوب شمال ووسط وغرب أورآسيا، وتتكلم لغات تنتمي إلى عائلة اللغات التركية، عموماً يتم استخدام مصطلح «Turkic» (ترك) للتعبير عن المجموعة الإثنولغوية لهذه الشعوب، ومثال على ذلك الآذاريون والكازاخ والتتار والقرغيز والأوزبك والتشوفاش وأتراك الجمهورية التركية والتركمان والأويغور.
تضم منطقة آسيا الوسطي اليوم كلاً من الجمهوريات المسلمة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي سابقاً، وهي: تركمانستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وقرغيزيا، وطاجيكستان، وكلها تنتمي إلى العرق التركي، فيما عدا طاجيكستان التي تنتمي إلى العرق الفارسي.
وعلى الرغم من أن لغات شعوب آسيا الوسطى تنتمي إلى عائلة اللغات التركية، فإنه ليس من السهل على شعوب تلك المنطقة فهم لغات بعضهم بعضاً بشكل تام؛ فمثلاً الأتراك لا يستطيعون فهم القرغيز بشكل كاف، ونفس الشيء بالنسبة للكازاخ والأتراك، أما القرغيز والكازاخ فلغاتهم متشابهة بشكل كبير، ويفهمون بعضهم بعضاً بشكل جيد، عموماً أقرب هذه اللغات إلى اللغة التركية (لغة تركيا) على التوالي، هي اللغة الآذرية، التي يعتبر الأتراك أصحابها (الأذربيجانيين) إخوة لهم، فهناك مشاعر تضامن قوية تجمع بين الطرفين، ثم تأتي بعد اللغة الآذرية اللغة التركمانية ثم الأوزبكية.
بشكل عام، تعود صعوبة التفاهم بين أصحاب اللغات التركية إلى أن اللغة التركية في تركيا من جهة مرت بتطورات عديدة ودخلت عليها كلمات من لغات عدة، ومن جهة أخرى تأثرت لغات شعوب آسيا الوسطى باللغة الروسية، واكتسبت منها مفردات ومصطلحات روسية كثيرة، الأمر الذي جعل من التفاهم التام بين تلك الشعوب أمراً شبه صعب، على الرغم من هذه العوائق، تتشارك شعوب آسيا الوسطى فيما بينها بنسب متفاوتة في سمات ثقافية وتاريخية محددة.
حملات إبادة على أيدي الروس
إبان الحكم القيصري والشيوعي، تعرضت شعوب آسيا الوسطى لحملات إبادة شرسة على أيدي الروس، فعلى مدار قرون، مرت شعوب تلك المنطقة من العالم الإسلامي بفترات من أبشع أنواع الظلم والاضطهاد، مورست خلالها حملات تصفية عرقية وإبادة بهدف حملهم على التخلي عن دينهم وحضارتهم ومحو هويتهم الإسلامية، فاتبع الروس في فترات زمنية مختلفة سياسة التصفية الجسدية لمن يعارضهم، كما رافق عملية الإبادة الجسدية إبادة من نوع آخر؛ وهي الإبادة الثقافية؛ تمثلت في وضع العوائق أمام التعليم باللغة الأم وتغيير الأبجدية العربية لشعوب تلك المنطقة إلى الأبجدية الكيريلية لإبعادهم عن لغة القرآن الكريم، كما اتبع الروس سياسة التهجير القسري المنظم الذي كان يهدف إلى الإبادة.
ففي عشرينيات القرن الماضي، قررت السلطات السوفييتية تقسيم منطقة آسيا الوسطى إلى جمهوريات بأسمائها الحالية، وكان ستالين حريصاً على تمزيق وتفتيت المنطقة وتشتيت الأعراق والأجناس فيها بطريقة متداخلة وغير منطقية؛ كي تصبح بؤراً للنزاعات العرقية والقومية؛ وهو ما حدث بالفعل.
ففي خضم انشغال المسلمين بأطماعهم، تُرك المسلمون في تلك البقعة الغالية من أرض الإسلام فريسة لأعدائهم؛ للروس تارة، ولدولة الكيان الغاصب لأرض فلسطين تارة أخرى، ففي العقدين الماضيين، سعى الكيان الصهيوني بكل ما أوتي من قوة إلى التوغل في تلك المنطقة الإستراتيجية من العالم الإسلامي، فما أن جرى المسلمون خلف شهواتهم وأطماعهم وساد الظلم بينهم إلا وضاعت أرضهم وضاعت هيبتهم وأصبحوا كغثاء السيل.
غياب الدعم العربي
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال القبضة الحديدية، ظلت هذه الشعوب المسلمة التي أنجبت علماء وفقهاء وقادة، أمثال الفرابي، والخوارزمي، والبيروني، والبخاري.. وغيرهم من رموز الأمة الإسلامية والعربية، الذين أثْروا الثقافة العربية والإسلامية ببطولاتهم وأعمالهم الخالدة في شتى دروب العلم والمعرفة باللغة العربية على مدار قرون طوال، واختلطوا بالعرب وصاروا ينسبون إليهم، في وقت لم يعرف فيه المسلمون فرقاً بين عربي وفارسي وتركي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، ظلت تلك الشعوب حائرة تائهة تبحث عمن يهديها طريق الرشاد، تبحث عن بديل، عن قائد جديد، عن ملهم جديد، لكن لم يكن الإخوة العرب حاضرين، لم يمدوا يد العون لإخوانهم في آسيا الوسطى وقت احتياجهم إليهم، فقد كانوا منشغلين بخلافاتهم الداخلية ومصالحهم الشخصية.
فبعد استقلال الجمهوريات المسلمة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، كان غالب المسلمين في تلك الدول لا يعرفون شيئاً عن الإسلام إلا من رحم ربي، حيث كان الإسلام ممنوعاً بل ومجرماً إبان الحكم الشيوعي، حتى في عهد القياصرة لم يكن الأمر مستقراً، فقد تمتع المسلمون لفترات متفاوتة آنذاك بقدر من الحريات حسب أهواء الحكام القياصرة الذين استولوا على أراضي المسلمين بشكل تدريجي بالقوة بعد انهيار الخلافة الإسلامية في بغداد وسقوط الأندلس في إسبانيا والبرتغال وانتصارات الروس في بعض المعارك على الدولة العثمانية لاحقاً.
تركيا تملأ الفراغ
في ظل هذا التخبط في تسعينيات القرن الماضي، حاولت تركيا ملء الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي وإشباع حاجة المسلمين في هذه الدول إلى قيادة بديلة، فقامت بتقديم المساعدات الإنسانية، وإنشاء مشاريع استثمارية ضخمة، وإنشاء العديد من المدارس والمؤسسات الإسلامية وبناء المساجد، وأدت دوراً بارزاً في إحياء الثقافة التركية والإسلامية لهذه الشعوب، وكان للقيم العرقية والثقافية المشتركة بين تركيا وهذه الشعوب دور فاعل في نجاحها بتعريفهم بالإسلام، وشيئاً فشيئاً نجحت في إبعادهم، إلى حد ما، عن روسيا والاقتراب من تركيا ومن بقية دول العالم الإسلامي، وبدأت تلك الشعوب تستعيد بعضاً من تاريخها الإسلامي، كما تم إنشاء منظمة الدول التركية على غرار جامعة الدول العربية لتكون مظلة للتعاون بين الشعوب التركية ولمّ شملها.
وأيضاً كان من ثمار الجهود التركية، قيام غالبية الجمهوريات المسلمة التركية الواقعة في آسيا الوسطى، بتغيير الأبجدية الكيريلية إلى الأبجدية اللاتينية لتقريبها من اللغة التركية والدولة التركية بشكل متسارع، واتفقت منظمة الدول التركية مؤخراً على اعتماد أبجدية لاتينية موحدة تتكون من 34 حرفاً، في خطوة تهدف إلى توحيد الأمة التركية.
الحرب الروسية الأوكرانية
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لم تعد روسيا قادرة على بسط نفوذها السابق في تلك الدول، ولم تعد قادرة على تزويدها باحتياجاتها من المنتجات التكنولوجية والسلع الاقتصادية والمعدات العسكرية، فانتهزت تركيا هذه الأحداث في إبرام العديد من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية والتعاون مع المؤسسات الصناعية والعسكرية في تلك الدول الشديدة الأهمية الإستراتيجية، وتزويدها بالصناعات العسكرية التركية التي أثبتت نجاحاً كبيراً في المعركة الدائرة في أوكرانيا.
ففي أبريل الماضي، نشرت الصحافة القرغيزية تقارير تشير إلى أن روسيا لم تعد قادرة على تزويد البلاد بأنظمة الدفاع الصاروخي، في المقابل، وظفت تركيا نجاح طائراتها دون طيار ضمن ساحة الحرب الدائرة بأوكرانيا في تزويد دول آسيا الوسطى بهذه التكنولوجيا، وتطوير علاقاتها العسكرية معها.
طبعاً كل هذه التغيرات كانت إيجابية للمسلمين في تلك البقعة الغالية من العالم الإسلامي، لكن يظل الغياب والتقاعس العربي عن ممارسة أي دور فاعل في تلك المنطقة الإستراتيجية من العالم أمراً محزناً، فتجمعنا روابط تاريخية وثقافية ودينية بل وصلات دم مع شعوب تلك المنطقة من العالم الإسلامي التي تحتوي على ثروات طبيعية هائلة، من بينها اليورانيوم اللازم للصناعات النووية، كما أن في كازاخستان قاعدة بايكونور الفضائية التي تستأجرها روسيا وسارعت «إسرائيل» أيضاً إلى الحصول على حقّ استخدامها كجزء من برنامج فضائي مشترك بموافقة روسيا، واستغلتها لإطلاق أقمارها الصناعية التي تساهم في قتل العرب والمسلمين حالياً.
كما أنه، عند مقارنة الأمة التركية بالأمة العربية فيما يخص السمات المميزة لكل أمة؛ نجد أن الله تعالى أنعم على العرب بميزات لم يخص بها غيرهم من الأجناس الأخرى، فتجمعهم وحدة اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والقيم الاجتماعية، واللازمة لصياغة هوية مشتركة، فلغتهم لغة فريدة لم ولن تتغير، لأنها لغة القرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظه، وتجمعهم جغرافيا واحدة ويتشاركون ثقافة واحدة، وبالرغم من كل هذه النعم التي حباهم بها الله تعالى لم يتم استغلالها بالشكل اللائق، فهل لهم أن يقتدوا بالشعوب الأخرى التي تشكل قوى إقليمية وعالمية على أسس عرقية وثقافية؟ هل آن الأوان كي يستعيد العرب مكانتهم بعد ما يجري الآن من إبادة للعرب وللمسلمين؟