في مقابلة للقيادي في «حماس» الأخ الفاضل أسامة حمدان، تعجبت من سبب استشهاده بالآية الكريمة من سورة «النساء» (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) (النساء: 84)، ثم عقب بعد ذلك بقوله: «الأمور باتت واضحة، ولا معنى الآن سوى القتال والتحريض على القتال»، وقلت في نفسي: لا بد أن يكون هناك سبب وراء هذا الاستشهاد العجيب، فرجعت إلى كتب التفسير فرأيت العجب العجاب!
وجوب القتال وإن كنت وحيداً
يقول الإمام الطبري: قوله: (لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ)؛ فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك.
ثم قال له: (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)؛ يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك؛ (عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ)، يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك، عنك وعنهم.
ويقول سيد قطب في «الظلال»، في هذه الآية: ومن خلال هذه الآية -بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك، كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم، وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه، حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في سبيل الله -ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه، مع تحريض المؤمنين، غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم -جملة- أمر لا يكون، ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو، واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة، فوق ما يحمله النص -طبعاً- من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي، وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه.
دروس من آية الجهاد
نستخرج من هذه الآية عدة دروس:
1- لا يستطيع أحد الهروب من الموت، مهما اتخذ من الأسباب، فكل مخلوق حدد الله له موعداً لا يستأخر عنه ولا يستقدم.
2- الإقدام والشجاعة لا يقدمان موعد الموت، والإحجام والجبن لا يؤخرانه.
3- كثير من الناس من يعتقد أنه يستطيع الإفلات من الموت بما يتخذه من تدابير، فكل تدبير يعلمه الله، وكل مخلوق تحت هيمنته.
4- رسالة للجبناء بأنهم بابتعادهم عن الجهاد، يحرمون أنفسهم الآجر العظيم، وربما الشهادة، ولا يجنبونها الموت ولا الخسائر.
5- رسالة إلى كل ظالم وطاغية: عش كما تريد، واظلم كما تحب، ولكن الموت هو مصيرك الحتمي.
إدراك سبب الاستشهاد
بعد هذه الجولة القرآنية، والغوص في معاني آية الجهاد في سورة «النساء»، أدركت سبب استشهاد القائد في «حماس» حمدان بهذه الآية الكريمة ما بلي:
يريد أن يقول للأمة: لقد تخليتم عنا، ولكن الله لن يتخلى عنا، يقيننا بأن الله معنا، ذلك لأننا قمنا بما أمرنا به الله، حيث أمرنا بالإعداد (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) (الأنفال: 60)؛ فأعددنا ما استطعنا، وصنعنا أسلحتنا بأيدينا، ورزقنا الله غنائم من أعدائنا، وفتح لنا بانتصارات لم تخطر على بالنا!
أما أنتم فسيسألكم الله يوم القيامة عن تخليكم عنا، فماذا ستجيبون؟!
ويريد أن يقول للأعداء: أيها الأعداء من قتلة الأنبياء، لقد حطمنا أساطيركم، وهدمنا سمعتكم، وكشفنا حقيقتكم أمام العالم، فما عادت تنطلي عليه أكاذيبكم، بأنكم الطرف المظلوم، وأمطنا الغشاء عن أعين الأمريكيين والأوروبيين؛ فاكتشفوا الآن أنكم تستعبدونهم، فثاروا ضدكم، وقاطعوا شركاتكم، وتحالف العالم في المحاكم الدولية ضدكم، وإننا بإذن الله منتصرون عليكم، فلا يغرنكم مساندة الدول الكبرى لكم، لأننا نعتقد بقول الله تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران: 160).
ويريد أن يقول للمتخاذلين: سيسجل التاريخ تخاذلكم ومساندتكم لأعداء الأمة، وتحالفكم مع الأعداء ضد أبناء عقيدتكم، ومساندة الأعداء بالمواقف والإعلام والسلاح والطعام وضرب المجاهدين من ظهورهم، وسيسألكم الله عن خياناتكم؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227)، ولن نتوقف عن الجهاد وإن تخلى العالم كله عنا.
ويريد أن يقول للجبناء: يا من تقيسون الأمور بالمنظور البشري القاصر، وتنتقدون المجاهدين بما يقومون به من مقاومة للمعتدي، وتحملونهم ضحايا الحرب، وتحثونهم على الاستسلام للعدو، وكأنكم لم تقرؤوا التاريخ، ولم تعرفوا صفات قتلة الأنبياء التي ذكرها القرآن، ونسيتم أنهم لم يتوقفوا لحظة عن مذابحهم للمسلمين منذ عام 1948م حيث لم تكن حينذاك «حماس»، ولكنه الجبن الذي جعلكم تقفون هذا الموقف.
ويريد أن يقول للمجاهدين ومن يساندهم: أبشروا بالنصر القريب، حيث لم يشترط الله على المؤمنين العدد والعدة، بل اشترط عليهم نصره فقط مع الإعداد بقدر استطاعتهم، فقال: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) (محمد: 7)، فاستيقنوا بالنصر وإن طال الزمن، فلله حكمة قد تخفى علينا بتأخر النصر، وها هي بشائر النصر ومقدماته قد لاحت، أفلا تبصرونها:
1- عدد قتلى أعداء الله فاق جميع المعارك التي خاضوها منذ احتلالهم، والمتوقع أنهم يزيدون على 10 آلاف هالك.
2- لم يتراجع اقتصادهم بمثل هذه الدرجة منذ تأسيسهم، فقد خسروا وما يزالون ما يزيد على 400 مليار دولار منذ بداية الحرب.
3- أعداد المصابين نفسياً أكثر من 300 ألف خرجوا من الخدمة.
4- أعداد الجرحى والمعاقين بلغت أكثر من 19 ألفاً.
5- أعداد النازحين من الشمال والجنوب خلال الحرب بلغت 143 ألفاً.
6- أعداد الهاربين من الجيش بلا عودة عدة آلاف.
7- أعداد الهاربين من «إسرائيل» من الصهاينة منذ بداية الحرب نصف مليون.
8- المظاهرات المؤيدة لفلسطين تعم العالم.
9- المقاطعة الاقتصادية تعم العالم.
10- أصبح المجاهدون والشهداء رموزاً لشباب العالم.
11- وتكفينا بشائر القرآن ووعد الله المظلومين بالنصر، حيث قال: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (القصص)، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160)، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (آل عمران: 13).