اهتم القرآن الكريم بالعقل وعوَّل عليه في أمور الاعتقاد والتكاليف، وأشاد به وبفضله في مواضع كثيرة، وهذه مزية لا نجدها في كتب الأديان الأخرى التي يلمح فيها المرء شيئاً من التقليل من شأن العقل أو التحذير منه بحسبانه باباً من أبواب الدعوى والإنكار.
وليس أدل على الاهتمام من ورود مادة «ع.ق.ل» في القرآن قرابة 50 مرة مصحوبة بمعاني الإشادة والتعظيم والتنبيه إلى ضرورة الاحتكام إليه، وتكرار الألفاظ التي تحمل معنى العقل وتقترب منه مثل: النُهى، الحِجر، اللب والفؤاد.. وغيرها.
وحين يستخدم القرآن العقل لا يستخدمه في الصيغة الاسمية المجردة، لكنه يستخدمه في الصيغة الفعلية ليثبت أن العقل ليس جوهراً أو مادة في حد ذاته، كما يعتقد الفلاسفة، وهذا ما أدركه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» حين قال: «لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً كما في القرآن؛ (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك: 10)، ويُراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقاً للغة الرسل والقرآن».
ويفترض نفر من الدارسين المعاصرين مثل أركون أن غياب الصيغة الاسمية تعني عدم معرفة القرآن مفهوم العقل بمعناه الفلسفي الحديث، ويرجع زكي الميلاد هذا الميل لتغليب الصفة الفعلية إلى عاملين:
الأول: كون القرآن الكريم كتاب عمل وسلوك، وليس كتاباً للرأي والنظر، ومنطقه هو منطق العمل وليس منطق الرأي، ويدعو دوماً إلى العمل، وتشمل دعوته الأفراد والجماعات والمجتمعات وحتى الأمم، ولسان حاله: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105).
والثاني: إن صيغة الفعل في الخطاب القرآني تدل على الحركة التي تقابل السكون، بمعنى أن العقل ينبغي أن يكون في حالة حركة دائمة، وليس في حالة سكون.
يضاف لهذا أن القرآن يستخدم مادة «ع.ق.ل» بمعان مختلفة بحيث تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، ومن هذه الوظائف:
– الوظيفة الأخلاقية، فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي، أو المنع عن المحظور والمنكر، إذ هو مشتق من عقل بمعنى المنع والحَجر، يقول الجاحظ: «سمي العقل عقلاً لأنه يزم اللسان ويخطمه عن أن يمضي فرطاً في سبيل الجهل أو الخطأ أو المضرة كما يعقل البعير».
– الوظيفة الإدراكية، وهي وظيفة رئيسة للعقل الذي يتأمل فيما يدركه ويعيه، ويُقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه، ويتجنب به الخوض في المهالك؛ إذ «ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه، بل العقل ألا يوقع نفسه في أمر يحتاج إلى الخلاص منه»، كما يقول الغزالي.
– الوظيفة الاستدلالية، وهي من أجل وظائف العقل الذي يفكر ويستخلص من بعد التفكير الرأي ويتدبر المآلات المحتملة للفعل الإنساني، وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمات متفاوتة لكنها متقاربة المعنى من قبيل: الفكر والبصر والتدبر والاعتبار والنظر.. وغيرها من الملكات الذهنية؛ مصداقاً لقوله: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101).
ولا يستطيع العقل ممارسة هذه الوظائف وغيرها ما لم يمتلك ملكة النقد التي يستطيع من خلالها التمييز بين الحسن والقبيح وإصدار الأحكام العقلية، وإذا كان مفهوم النقد أو مشتقاته لم يرد في القرآن إلا أنه دعا إليه صراحة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
وهناك بضع مصطلحات في القرآن تؤدي معنى النقد ومنها النصيحة، وهي كل ما يتضمن الدعوة إلى صلاح والنهي إلى فساد على اختلاف نوعه، وحين نقارن بين النصح والنقد نجد التقاء بينهما في المعنى والغاية؛ إذ إن النصح يتضمن كشف العيوب والأخطاء، كما هي الحال مع النقد، وقد مارس علماء الإسلام النقد العلمي وتوسعوا فيه، ومنهم ابن رجب الحنبلي الذي ذهب إلى «أن رد المقالات والأخبار الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية الصحيحة ليس أمراً يكرهه العلماء الصادقون، بل هو شيء محبب لهم، بل ويمتدحون فاعله، وقد يثنون عليه، ولم يعدوا ذلك من الغيبة، فإذا فرض أن واحداً من الناس يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك».
ومنها «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ووجه التقارب بينه وبين النقد أن الأمر بالمعروف هو إظهار وتمييز لما هو جيد وحسن من التصورات والتصرفات عن غيرها من التصورات والسلوكيات الذميمة، وهذا هو جوهر النقد.
ومنها أيضاً «النقض»؛ وهو مصطلح قرآني يستخدم للإشارة إلى معنى النقد السلبي الذي ينتهي إلى الهدم لا النقد الإيجابي الذي يروم إلى التقويم، ومنه قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) (النحل: 92).
والنقد في الاستعمال القرآني يأتي على ضربين: نقد ذاتي؛ والمقصود منه محاسبة النفس وفحص ما يصدر عنها من أقوال وأفعال، وأصل ذلك قوله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2)، ونقد جمعي؛ يقوم به أفراد المجتمع بغرض انتقاد أفكارهم وسلوكياتهم الخاطئة، ومن أمثلته قصة أصحاب الجنة الذين أرادوا النكوث عن نهج أبيهم في إعطاء المساكين حقهم من ثمار البستان، فلما حلت عليهم النقمة ثابوا إلى رشدهم؛ (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) (القلم)، فاللوم والتلاوم في الآية هو نقد بعضهم بعضا، وهو أول ما فعلوه بعد حلول النقمة.
مما سبق يفهم أن القرآن يدعو إلى إعمال العقل ويقيم عليه أمور الشريعة والتكليف، وليس فيه ما يدعو إلى احتقاره أو تجاهل أحكامه.