«إشكالية العولمة الثقافية»، تلك هي المقدمة الملائمة كبداية لهذا المقال حول ما تركته العولمة الثقافية في أخلاقيات وسلوكيات ومفاهيم الشباب المسلم والعربي، وساهمت بشكل مباشر وعميق في تشكيل أنماط جديدة لحياتهم وتفكيرهم ومواقفهم تجاه الثقافة المحلية والقيم التقليدية، وتغيرت النظرة المتوارثة للقيم المتعارف عليها، والثوابت المجتمعية، وقيم الأسرة، وارتبط تقييم الآخرين بقدر ما يتعاطون من الثقافة الغربية المرتبطة بمفاهيم العولمة والتخلي عن الهوية الثقافية للأمة المسلمة، وتعددت التأثيرات السلبية على مفاهيم الشباب وعلى أكثر من محور سلوكي وثقافي واجتماعي.
1- التأثير على الهوية الثقافية:
العولمة الثقافية فرضت أنماطًا جديدة من الثقافة الغربية التي تروج من خلال وسائل الإعلام، والإنترنت، والأفلام، والأغاني الهابطة، والموسيقى الغريبة، الكثير من الشباب أصبحوا يتبنون قيماً وأسلوب حياة بعيداً عن القيم الثقافية التقليدية، ما أدى إلى نوع من الاغتراب الثقافي، ومن الآثار السلوكية عليهم البحث عن قدوة غير الآباء والعلماء، وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي من الأجانب، أيضاً محاولة تعويض الفراغ العاطفي الناتج عن التغريب الأسري بتكوين علاقات غير مشروعة في ظل غياب الرقابة المطلوبة من كافة الاتجاهات، ثم ذابت الفوارق الثقافية بين المجتمعات بعد سهولة عمليات السفر والهجرة نحو الغرب ليترك الشباب هويتهم على أبواب مطارات بلادهم.
2- تغيير الأنماط الاجتماعية:
أدت العولمة إلى ظهور ثقافة الاستهلاك والتركيز على الفردية؛ ما أثر على الأواصر الاجتماعية والعائلية، وتحولت المنطقة لسوق استهلاكية كبيرة تعتمد على الإنفاق دون الإنتاج، وازدادت متابعة ما يسمى بـ«الموضة» من قبل الفتيات وأيضاً الشباب لتكون الأذواق السائدة لا تمت لثقافتنا بصلة، وازدادت حدة التبرج الصارخ والاختلاط الماجن، هذا غير تقلص قيمة الاحترام والتقدير للكبار بمن فيهم العلماء والمربون.
3- تأثير التكنولوجيا والإعلام:
كان لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الأكبر في نقل الثقافة الغربية وانتشارها بين الشباب، فالمحتوى الرقمي الموجه من الخارج غالباً ما يعزز قيماً لا تتماشى مع قيم الأمة، مثل الانفتاح غير المحدود والمادية، وللأسف فإن الأمة بعد كل تلك التحديات والنتائج شبه الكارثية لم تحاول مواجهة ذلك المد الإعلامي والتكنولوجي بمواقف جادة ومنتجات بديلة يمكن من خلالها التصدي لتلك الهجمة، وإنما هناك ما يشبه الاستسلام وكأنه لا بديل إلا الانبطاح أمام المد الثقافي الغربي.
4- التحديات القيمية والدينية:
تحديات خطيرة تعرض لها الشباب المسلم خلال السنوات الأخيرة تمس القيم المتعلقة بالدين والالتزام والثوابت، وذلك لتعرضهم المستمر لضغوط ثقافية مختلفة ومحيرة مع ضعف الوازع الديني في الأساس نتيجة لظروف مركبة؛ ما أدى لظهور إشكاليات أخرى مثل ظاهرة الإلحاد، والتشكيك في الثوابت مثل الهوية والانزلاق نحو هاوية التطرف الأخلاقي غير المسبوق.
5- فرص إيجابية:
الحقيقة أنه بالرغم من كافة المعطيات المحبطة والصورة السلبية، فإن الصورة ليست قاتمة تماماً، فإن كانت العولمة الثقافية استطاعت أن تفرض واقعاً مغايراً لشباب الأمة، فإنها حملت في باطنها أفكاراً أخرى يمكن استثمارها إذا توفرت هناك إرادة مجتمعية للعلماء والمفكرين في استثمار تلك الفرص، فهي تحمل في طياتها بعض النقاط الإيجابية التي لم يلتفت إليها أحد بين ذلك الركام من السلبيات.
فعلى سبيل المثال، فقد اطلع الشباب على حالة الحريات في الغرب، وقيمة العلم، وقيمة الإنسان نفسه، وأخطار الحياة المادية البحتة بعيداً عن الدين والأخلاق، وأن هناك فرصة للتأثير المعاكس للعولمة، فبدلاً من مجرد التلقي، هناك إمكانية لتصدير أفكار تتعلق بثقافتنا نحن كمسلمين.
إن العولمة صنعت نوعاً من الحوار المتبادل، وهناك إمكانية كبيرة للتأثير بقدر التأثر أو أكبر إذا تكونت هيئات فكرية لصناعة حوار متبادل يمكن البناء عليها بشكل كبير في المستقبل القريب، ويمكن أن يتم استخدام أدوات العولمة لنشر ثقافتنا من خلالها، وكي يتم ذلك هناك عدة إجراءات:
1- تعزيز الهوية الثقافية الإسلامية من خلال الأسرة والمسجد والتعليم.
2- تطوير وسائل الدعوة باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
3- القدرة على الانتقاء من الثقافة الغربية، واستبعاد الرث منها وإحداث نوع من التوازن بين الانفتاح والحفاظ على الأصالة.
ولتعزيز الهوية الثقافية الإسلامية، هناك عدة خطوات يجب اتخاذها من المعنيين لترسيخ الهوية داخل وجدان الشباب المسلم، ومنها:
1- التعليم ودوره الرئيس في تعزيز الهوية والحفاظ عليها وترسيخها؛ وذلك بتدريس مناهج دراسية تعرض التاريخ والتراث والقيم الدينية بصورة جديدة تراعي مقاصد العلم ودروسه، أيضاً الاهتمام باللغة العربية فهي اللغة الأم التي تحوي علوم الدين والثقافة والحضارة مجتمعين، كذلك الاهتمام بسير الأولين من الأجداد والآباء ومفاخرهم وبطولاتهم لحفز الشباب على اتخاذهم قدوة.
2- الإعلام وصناعة المحتوى؛ وذلك لوضع البدائل التي يبحث عنها الشباب ولا يجدونها إلا في صورة رديئة؛ فيعرضون عنها لاجئين للطرف الآخر ليستقبلوا منتجه دون انتقاء أو اعتراض، فيجب خوض المجال الفني بفكر جديد يدرك أهمية ذلك الجانب والحرص على جودته وتوافقه مع ثقافتنا الإسلامية؛ وتأكيداً لها بعيداً عن العنف والعري والقيم المستوردة، كذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة رأي عام يروج للقيم الثقافية الأصيلة بشكل جديد ومبتكر وجاذب.
3- الأنشطة الثقافية والمجتمعية؛ كتنظيم فعاليات ثقافية تشجع المبدعين من الشباب كالشعراء والكتَّاب والموسيقيين ومصممي الأزياء العربية لفتح مجال إيجاد البدائل التي ترضي أذواقهم.
4- الاهتمام بالأسرة وإعادتها لدورها التربوي؛ فالأسرة مسؤولة عن غرس القيم الثقافية وتعليم العادات والتقاليد من خلال الممارسة اليومية، علاوة على إحياء الرابطة الأسرية وتعزيز العلاقة بين أفراد العائلة الواحدة.
ولتطوير وسائل الدعوة باستخدام التكنولوجيا، يعتمد ذلك على استثمار الوسائل الرقمية المتاحة حتى وإن كانت من منتجات العولمة، ولتحقيق ذلك:
– الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بإنشاء صفحات ومجموعات دعوية في مجالات مختلفة لمحاربة مظاهر هوية الآخر، وإنشاء مقاطع «يوتيوب» القصيرة الجذابة التي تستهوي الشباب.
– تقديم محتويات رقمية جذابة، تحمل طابعاً تعليمياً تقدم بصور مرئية وفيديوهات لتقريب المفاهيم وتوضيح الحقائق بصورة مبسطة.
– تطوير البرامج الدعوية بطريقة منهجية بحيث تقدم علوم الشريعة من فقه وعقيدة وسيرة وعلوم قرآن.
– استثمار برامج الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى وتنظيمه، واستخدام تقنياته لجواب الأسئلة بشكل دقيق، مع متابعة تلك الأجوبة ومناقشة الشباب فيها ومتابعة المردود العلمي والثقافي عليهم.
– تقديم محاضرات وتنظيم ندوات بالبث المباشر عبر المنصات الملائمة، مع فتح أبواب النقاش المباشر.
– استخدام ميزة التسويق الإلكتروني للوصول إلى أكبر عدد ممكن، وجمهور أوسع.
– استخدام المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتويات مطلوب نشرها، فهؤلاء يمثلون جانباً مؤثراً للشباب بشكل كبير.
– تنظيم فعاليات للتواصل المباشر بين الدعاة والشباب، وذلك عبر تنظيم رحلات خلوية، وحبذا أن تكون لأكثر من يوم للتعايش وملاحظة سلوكيات الشباب والتفاعل معهم وإجابة تساؤلاتهم.
– إنشاء مكاتب متخصصة في تحليل البيانات ووضع الخطط والاستعانة بالمتخصصين في تلك المجالات لتجديد الوسائل التربوية مع متابعة النتائج.
لقد تركت العولمة آثاراً سلبية كبيرة على شباب الأمة، وقد آن الأوان لينتبه المسؤولون لخطورة الوضع ليضعوا حلولاً لمواجهة الأمر بقوة، والأمل ما زال قائماً في استدراك الإشكالية خاصة أن المنهج الإسلامي سيظل صالحاً لاستيعاب كل جديد، وتحدي أي واقع.