كان من المتوقع أن يكون للانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا تداعيات على المشهد الداخلي، كيف لا وقد تراجع فيها حزب العدالة والتنمية أمام خصمه حزب الشعب الجمهوري للمرة الأولى منذ تأسيسه مخفقاً في استعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول منه وخاسراً بلديات إضافية، عدا عن أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت شديدة التنافس واحتاج فيها الرئيس رجب طيب أردوغان لجولة إعادة لحسمها لصالحه.
لهذه الأسباب، ولأنها العهدة الرئاسية الأخيرة دستورياً لأردوغان في ظل رغبته في الاستمرار وشعوره باستمرار قدرته على ذلك، كان من المتوقع تحريك بعض الملفات الداخلية وفي مقدمتها الملف الكردي أو المسألة الكردية الداخلية، خصوصاً أنه كانت قد صدرت بعض الإشارات من عدة أطراف حول الأمر.
كان ذلك متوقعاً من حيث المبدأ، إلا أن ما حصل فاق كل التوقعات، ففجأة ودون مقدمات مسبقة توجه رئيس حزب الحركة القومية زعيم التيار القومي (التركي) في البلاد دولت بهجلي لنواب حزب مساواة وديمقراطية الشعوب (وريث حزب الشعوب الديمقراطي «الكردي») في بداية السنة التشريعية الجديدة (أكتوبر) بمصافحة غير معتادة، ليفجر المفاجأة الكبرى بعد ذلك بأسبوع.
استعداد الأطراف المحسوبة على العمال الكردستاني لمسار سياسي ما بعد أن تتضح معالمه
فأمام كتلة حزبه البرلمانية، نادى الزعيم القومي بإخراج زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل منذ عام 1999م، من سجنه وإتاحة منبر البرلمان له ليلقي أمام كتلة الحزب «الكردي» البرلمانية كلمة يعلن فيها نبذ الإرهاب ووقف العمليات ضد تركيا وحل تنظيم العمال الكردستاني، مبدياً استعداده –أي بهجلي– لعمل كل ما هو مطلوب مهما كان الثمن السياسي الذي يمكن أن يدفعه.
لا تقف حدود المفاجأة عند مضمون الدعوة؛ أي الإعلان عن الاستعداد لإطلاق سراح أوجلان، على أهمية وحساسية ذلك، ولكن كذلك في شخص المتحدث، الذي قد يكون الأكثر تشدداً في تركيا بخصوص الملف الكردي والعمال الكردستاني، وكان يطالب بإعادة عقوبة الإعدام (ملغاة منذ عام 2004م) لإعدام زعيم الكردستاني على وجه التحديد.
مواقف
ولأن بهجلي حليف الرئيس الوثيق منذ عام 2017م، اتجهت الأنظار لأردوغان لاستطلاع موقفه مما قيل، فكانت تصريحات الأخير شكراً ودعماً لبهجلي؛ ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن تصريح بهجلي كان متفقاً عليه مسبقاً بين الرجلين، في الخطوط العريضة على أقل تقدير.
رغم صدمة المفاجأة، فإن الرئاسة والحكومة لم تعلنا عن برنامج أو خطة محددة بهذا الخصوص، لكن التصريحات أوحت بأن هناك شيئاً يُحضّر خلف الكواليس وقد يكون قرب إعلانه، وإلا لم يكن بهجلي ليغامر بتصريح من هذا النوع ظن الكثيرون في البداية أنه مناورة أو إحراج أو تحدٍّ من نوع ما، قبل أن يؤكد الرجل موقفه في خطابات لاحقة، فضلاً عن تأييد أردوغان.
أكثر من ذلك، فقد جاءت تصريحات من الطرف الآخر عززت هذا الانطباع؛ أي أن هناك مساراً سياسياً قد يكون الإعلان عنه قريباً، فقد رحب حزب مساوة وديمقراطية الشعوب بالدعوة، وأكد استعداده لممارسة أي دور مطلوب منه لإنجاح مسار سياسي ما، ولكنه اشترط لذلك إنهاء عزل أوجلان في سجنه، كإشارة تأكيد على جدية الطرح.
كما أن الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش، الموقوف على ذمة قضايا تتعلق بدعم الإرهاب، رحب بدعوة بهجلي، وداعياً لعدم السماح لمن يحاولون إعاقة الحل السياسي هذه المرة، أوجلان نفسه أعلن في رسالة نقلت عنه بالتصريح مؤكداً قدرته على نقل العملية من مسار العنف إلى مسار سياسي – قانوني، «إذا نضجت شروط ذلك»، على حد تعبيره.
يشي كل ما سبق على استعداد الأطراف المحسوبة على العمال الكردستاني لمسار سياسي ما بعد أن تتضح معالمه، ولعل إعلان حزب مساواة وديمقراطية الشعوب عن إجرائه لقاءً مع وزير العدل التركي للمطالبة بإلغاء عزل أوجلان، وزيارة الأخير من قبل أقرباء له ونقلهم رسالة منه؛ مما يعزز هذه الفرضية.
رغم عدم الإعلان عن برنامج سياسي محدد بهذا الملف فإن التطورات تشير إلى وجود تحضير ما
قد لا يختلف اثنان في تركيا على أن المسألة الكردية ما زالت عقبة أساسية في المشهد السياسي الداخلي، فضلاً عن تعقيداته الإقليمية في كل من سورية والعراق، وعلى أن الحل الأمني – العسكري لا يكفي وحده حلاً، بيد أن الحكومة تقول منذ مدة: إنها أضعفت إلى حد كبير إمكانات المنظومة الانفصالية العسكرية والاستخبارية والاقتصادية والبشرية؛ بما يقوّض أحلامها بالدويلة الكردية أو الانفصال أو التقسيم؛ ما يمكن أن يفتح الباب على مسار سياسي جديد، وإن كان بشكل مختلف هذه المرة على ما أعلن أكثر من مسؤول حكومي وحزبي في البلاد.
تُعدُّ هذه الأرضية عاملاً مساعداً على إطلاق المسار السياسي المفترض، كما يساعد على ذلك موافقة بهجلي كحليف لأردوغان وكرئيس لحزب رئيس في البرلمان وبعدِّه زعيم التيار القومي في البلاد الذي عادة ما يكون على النقيض من الحل السياسي، فإذا ما أضيف لذلك استعداد الحزب «الكردي» في البلاد للاضطلاع بدور إيجابي وترحيبه بمبادرة بهجلي، نكون أمام عدة أحزاب تمثل أغلبية في البرلمان، يمكن أن يُضاف لها عدم ممانعة حزب المعارضة الأكبر الشعب الجمهوري للحل من حيث المبدأ بانتظار التفاصيل.
عقبات
من جهة أخرى، لن يكون المسار المفترض طريقاً مفروشاً بالورود، بل تمثل أمامه عقبات حقيقية وعميقة، في مقدمتها تراجع مركزية أوجلان في آليات اتخاذ القرار داخل الكردستاني؛ ما يعني أن دعوته –إن حصلت– لن تكون كافية لوقف الحزب عملياته ودخوله في المسار السياسي، فالكردستاني ليس على قلب رجل واحد اليوم، والقيادات العسكرية في جبال قنديل تبدو رافضة لأي حل سياسي، كما كان أكثر من قيادي عسكري أكد سابقاً أن أوجلان المعتقل لا يملك الأهلية والصلاحية لتحديد المسارات السياسية والعسكرية الإستراتيجية للحزب.
من جهة ثانية، لا ينبغي إغفال العامل الخارجي فيما يتعلق بالكردستاني ومشكلة الإرهاب عموماً، فالأطراف الدولية الداعمة للكردستاني بتمظهراته المختلفة لن تسمح بسهولة بإنهاء ملف من هذا النوع يفقدها أوراق قوة وضغط على تركيا وغيرها من الأطراف في المنطقة، هذا البعد لا يغيب عن تصريحات المسؤولين الأتراك الذين رأوا في الهجوم الإرهابي الأخير على إحدى شركات الصناعات الدفاعية المتخصصة، الذي أتى بعد يوم واحد فقط من تصريح بهجلي وخلال مشاركة أردوغان في قمة مجموعة «بريكس»، رأوا فيها رسائل ضغط خارجية أبعد وأعقد من مجرد عملية لتنظيم إرهابي.
وأخيراً، ثمة مشكلة تتمثل في المسار السابق الذي فشل وتعقدت الأمور أكثر بعده، لتخوض الحكومة حرب مدن وشوارع بعد إعلان الإدارات الذاتية في بعض مناطق الأغلبية الكردية في البلاد، هذا الشك تعززه كذلك تقديرات بأن أحد الأهداف من أي مسار سياسي في الملف الكردي قد يكون تمهيد الطريق لإعادة ترشح الرئيس التركي للانتخابات الرئاسية بعد صياغة دستور جديد أو تعديل الحالي، أو ربما بدعوة البرلمان لتبكير الانتخابات (ما يتيح له الترشح دستورياً مرة أخرى).
في المحصلة، ورغم عدم الإعلان عن برنامج سياسي أو مسار محدد بخصوص هذا الملف الحساس، فإن مختلف التطورات والتصريحات تشير بوجود تحضير ما لم يصل لنقطة الإعلان الرسمي بعد.
ولعل ما سبق شرحه وتفصيله من تعقيدات وتشابكات وتحديات مما يفسر عدم التناغم بين الإعلان من جهة، وتوقيف رؤساء بلديات يتبعون للحزب «الكردي» في البلاد بعد التصريح، في خطوة عدَّها البعض تناقضاً في الأجندة بين تيارات داخل الدولة، بينما رآها آخرون ضغطاً على الحزب أو أطراف داخله أو على المنظومة للشروع في التسوية القادمة المفترضة، أما تقييم فرص النجاح بشكل دقيق فلن يكون ممكناً قبل الإعلان عن المسار السياسي المفترض بشكل رسمي وتفصيلي.