الفقر، هذا الثقيل الوطأة، له في البيوت ضجة وصخب، ولا يُرْجى منه قط سكينة وهدوء إلَّا إذا غالبه الدِّين في الدور والنفوس، وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقيراً فلم يكن صاحب مال في المدينة، ولا من قبلها في مكة، ولنقف معه قليلاً قبل الوقوف مع سيدة اللقاء، ولسوف ندرك أهمية هذه الوقفة خلال وقفتنا مع السيدة.
لم يكن عبدالله بن مسعود من قريش، حيث كان رضي الله عنه من هذيل من أرض نجد، وكانت جدته لأمه هند بنت عبد الحارث بن زهرة قد تزوجت في هذيل، ونشأت أمه أم عبد في هذيل وتزوجت بها، فكان ابن مسعود هذليّاً من قِبَل آبائه، قرشيّاً من قِبَل أمه، وعندما بلغ في مدارج حياته أول الشباب مات أبوه، فضاقت به سُبل العيش في أرض نجد، فانحدر إلى مكة ليأوي إلى أخواله من بني زهرة.
ولمّا كان الشباب في مكة لا يألفون البطالة، راح ابن مسعود يلتمس عملاً، وكان شاباً وادعاً، وما لبث أن وجد عملاً يتوافق مع طبيعته الوادعة وهو رعي غنيمات لعقبة بن أبي معيط، وطفق على حاله حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ليومه.
وتحدث رضي الله عنه عن هذا اليوم الأغر، فقال: كنت أرعى غنماً لعُقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا غلام، فقال لي: «يا غلامُ، هل من لبن؟»، قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاةٍ لم يَنْزُ(1) عليه الفحل؟»، قال: فأتيته، فمسح صلى الله عليه وسلم ضرعها، فنزل اللبن، فحلبه في إناء فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «انقلِصي» فانقلَصَتْ، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: «يرحمك الله، إنَّك غلامٌ مُعلَّمٌ»(2).
وهنا يفرض السياق علينا وقفة قصيرة مع ربة(3) الترجمة زينب بنت معاوية رضي الله عنه لنقول: كان للعبارة النبوية الشريفة «إنك غلامٌ مُعلَّمٌ» وقع خاص لا نحتاج معه إلى تدقيق لاستنتاج أن ابن مسعود كان لا يزال غلاماً(4) بعد البعثة الشريفة، وباستشفاف تاريخي واضح نستطيع أن نقرر أن زينب بنت معاوية، زوجة عبدالله بن مسعود، كانت تتوافق معه في السن، وهكذا فقد كانت ما زالت تدرج في طور الفتيات وقتها.
وعود عاجل لابن مسعود لنقول: يومذاك تعلق قلب ابن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم أشد التعلق حتى استشعر اِسْتِعْصَاء المضي في الحياة دون ملازمته صلى الله عليه وسلم، فترك رعي الغنم ليُسلِم ويلازمه كظله، ولأنه رضي الله عنه ترك الرعي ليلازم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أنعم الله عليه وعلى أمه بشرف الدخول عليه وملازمته، حتى قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قدمت أنا وأخي من اليمن، فكنَّا حيناً(5) وما نرى ابن مسعود وأمه إلَّا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم عليه، ولزومهم له(6).
لذا، علت منزلة ابن مسعود، وارتفع قدره، حتى قال عن نفسه: «لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أحداً أعلم مني لرحلت إليه..»(7).
قال رضي الله عنه ذلك في غير تزكية لنفسه، ولكن بغرض تحصيل منفعة للناس، وترغيبهم في أخذ العلم عنه، ولمَ لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد -فبدأ به– ومعاذ بن جبل، وأُبيّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة»(8)؟ وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «من سرَّهُ أن يقرأ القرآن غضاً كما نزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد»(9).
هكذا جعل عبدالله بن مسعود جهده وهمَّه في ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحصيل العلم عنه، وكان زاهداً في دنياه أشد الزهد حتى قال تميم بن حرام: جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أحداً أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أحب إليَّ أن أكون في صلاحه من عبدالله بن مسعود.
عمداً طالت وقفتنا مع ابن مسعود ليجد أحدنا الإجابة في نفسه إذا دفعته الأحداث القادمة إلى التساؤل: لماذا كان عبدالله بن مسعود يأكل من مال زوجته؟!
لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من مال السيدة خديجة بنت خويلد لتفرغه لشؤون الدعوة، وأعباء الرسالة، فإن عبدالله بن مسعود كان يأكل من مال زوجته السيدة زينب بنت معاوية لتفرغه لملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ العلم عنه.
وليس من بد من القول: إن نفقة الرجل على زوجه هي الأصل، ولكن صروف الحياة لا تُوفِّر هذا الأصل لكل راغب، فمتى استطاع الرجل أن ينفق على أهله كان عليه أن يفعل، فإذا لم يتوفَّر له، وكان في ضائقة مادية لسبب أو لآخر فلا حرج عليه أن يأكل من مال زوجته طالما كانت تمتلك الكسب الطيب، وطابت نفساً بذلك.
كان ابن مسعود يعمل في شبابه قبل الإسلام، ولا ريب أنه لم يكن شيء أحبّ إليه بعد الإسلام من إعالة أهله، وأن يكون لهم بمثابة الدرع السابغة التي تكفل لهم النفقة والأمان، لكن من أين له بالمال؟ وأنَّى له بالعمل الذي يحقق له ذلك الهدف المرموق ولا يتعارض مع ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذه العلم عنه؟ وكانت زينب بنت معاوية الثقفية رضي الله عنها امرأة صَنَاعاً(10)، وليس لعبدالله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من ثمن صناعتها(11).
أرادتها صروف الحياة على النفقة عليهم، فكانت تَبِرُّ بهم، وتُحسِن إليهم، وتجابه بعملها مناكدة الفقر وعنته، ولزمت ذلك أياماً متوالية وهي بالكاد تسدّ الفاقة، وتناهض مطالب الدار التي تبتلع ما تكتسبه، وكانت مظاهر الأُلْفة تكثُرُ في الدار وأنف الفقر راغم، يدفعهم إلى الصبر والمصابرة جو أفعمته مظاهر العبادة بالجلال والوقار، ولهم حلم لا يكفّ عن الخفقان في أفئدتهم، ولا يكفّون هم عن اللهاث خلفه، ألا إن حلمهم الجنة.
وكانت السيدة زينب بنت معاوية تسعى في حياتها سعيها الدؤوب وهي تُصْغي إلى كلام الله عز وجل، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتُقبل على أوامرهما في سكينة، وتتجنب نواهيهما في هدوء، وذات يوم كانت بالمسجد ونما إلى مسامعها صوت النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدَّقن يا معشر النساء ولو من حُليكنَّ»(12).
فاضطربت وبُعِثت في جسدها قشعريرة دونها قشعريرة الفزع، إن النبي صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ النساء على الصدقة حثاً أكيداً، آلمتها العبارة الشريفة، وروعها معناها، وتجاذبتها الأفكار؛ إنها تجتهد في عملها لتجابه مناكدة الفقر وعنته، وبالكاد تسدُّ الفاقة، وتناهض مطالب الدار، أجل هي تبرُّ زوجها وأولادها وتُحسِن إليهم، ولها عندهم مآثر، ولكن ذلك كله لا يبلغ عندها مبلغ التفريط في أمر من أمور الدين ذلك الخير الذي لا يُعَوَّض بغيره، وما نحسبها إلَّا وجعلت تشرع بأذنيها مدققة للعبارة الربانية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) (البقرة: 267) تتردد في أجواز الفضاء من فوقها وحولها، وتتعقبها العبارة النبوية الشريفة: «تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن».
هي إذاً تفعل ما تفعله أولاً ابتغاء مرضاة الله، ليس لحبِّ زوجٍ، أو مرضاة ولد، وما نحسب عبدالله بن مسعود الذي يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع منه إلَّا وهمَّ أن يُحدِّث زوجته التي يفيض قلبها بالخير في هذا الأمر، ويبين لها أن نفقتها عليهم وبرَّها بهم لا ينقص من أجرها عن أجر المتصدِّقين شيئاً، وإنما يربو بأجرها عليهم، ولكنه ألفاها تسبقه إليه، قائلة في لهجة طابعها التحفظ والأدب: شغلتني أنت وولدك عن الصدقة.
ربما شق على ابن مسعود ما سمع، ولكنه قال وعلى صفحة عينيه يَلْتَمع مزيج من ضوءي الشكر والشفقة: ما أحبُّ أن تفعلي إن لم يكن لك أجر.
ولم تجلس المرأة الطيبة تغمغم ولا تُبين(13)، وإنَّما تمنَّت على ابن مسعود أن يسأل لها النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر، وكيما تطيب نفساً، وتسكن فؤاداً، طلب منها ابن مسعود أن تسأل بنفسها، فبنت عزمها على الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سائلة مستفتية، ما رأيكم في أن نسمع منها؟
قالت رضي الله عنها: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ»، وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا: سَلْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟»، قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِاللَّه، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ ولَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ»(14)(15).
وما نَحْسَبَهُ أن السيدة قد عادت من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ونفسها تُدَوِّي بالتهلل، وعلى مُحيَّاها يتلألأ الاستبشار، وتمرُّ الأيام وهي تسمع من زوجها الأحاديث الشريفة وتروي عنه(16)، وربما سمعت منه يوماً قوله الشريف: «على كل مسلم صدقة»، فقالوا: يا نبي الله، من لم يجد؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يُعين ذا الحاجة والملهوف»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشرِّ فإنها صدقة»(17).
وما نفهمه، أن السيدة طفقت تدأب في صنعتها وتبيع وتنفق على زوجها وولده، وقد توارى من نفسها تماماً معنى أنهم يشغلونها عن الصدقة، وتتردد فيها ترديداً متصلاً بالعبارة النبوية الرائعة: «لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ»، فما كانت رضي الله عنها تطمع أو تطمح في أكثر من أجر، فكيف بها وهي تنفق على أحبابها ولها أجران؟! فيشعرها ذلك بالرضا، ويغريها بالمزيد(18).
________________________
(1) يثب عليها، فمن المعلوم أن الشاة لا تدر اللبن إلَّا بعد أن تحمل وتلد، ولكنها آية من آيات النبوة للنبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (7061)، وأحمد (1/379) باختلاف يسير، وصححه الألباني في صحيح السيرة.
(3) صاحبة الترجمة.
(4) الغلامُ: يُطلق على الطفل الذكر منذ لحظة ولادته إلى أن يشب وينبت شاربه، وجمعها: أغْلِمَةٌ، وغِلْمَةٌ، وغِلْمَانٌ.
(5) مكثنا زماناً.
(6) خبر صحيح: أخرجه البخاري (3763)، ومسلم (2460)، والترمذي (3808).
(7) خبر صحيح: أخرجه البخاري (5002)، ومسلم (2463).
(8) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3808)، ومسلم (2464)، والترمذي (3810).
(9) حديث صحيح: صححه الألباني في صحيح الجامع (5961).
(10) تمارس إحدى الصناعات التي تدر عليها رزقاً حلالاً.
(11) أخرجه الطبراني في الكبير (24/ 263).
(12) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (1000).
(13) لا تتحدث ضائقة بعبارات مبهمة وغير مفهومة تعبر فقط عن الضيق والضجر.
(14) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1466)، ومسلم (1000) باختلاف يسير.
(15) ورد هذا الحديث في ترجمة زينب بنت معاوية الثقفية امرأة عبدالله بن مسعود، وورد أيضًا في ترجمة رائطة أو ريطة بنت عبدالله امرأة عبد الله بن مسعود، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنِّي امرأة ذات صنعة فأبيع، وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي شيء ويشغلونني عن الصدقة فلا أتصدق، فهل لي في النفقة عليهم أجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لكِ في ذلك أجر ما أنفقتِ عليهم، فأنفقي عليهم» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (3/ 503)، والطبراني في الكبير (24/ 263)).
(16) ورد عن زينب بنت معاوية، ورائطة بنت عبدالله أن كلاً منهما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم (راجع التراجم الخاصة بهما التي سنشير إليها في الهامش الأخير).
(17) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1445).
(18) راجع: طبقات ابن سعد (8/290)، الاستيعاب 3399)، الثقات (3/133) (3/145)، أعلام النساء (1/412) (2/115)، الإصابة (4970) (11210) (11257)، أسد الغابة (6911) (6943) (6975).