أولى المسلمون في الصدر الأول عناية فائقة بالمرافق العسكرية والتدريب الجهادي، فقد كانوا يؤسسون دولة، ويحملون رسالة دين، ويسعون لتحقيق وعد إلهي بالنصر والتمكين، ويعيشون حالة مستمرة من الفعل العسكري؛ إما يتصدون لعدوان، أو يبادرون إلى فتح، وكانوا في هذا وذاك يواجهون بتفوق تغير الطبوغرافيا والمناخ وأساليب القتال، ويوظفون شتى العوامل لتحقيق غايتهم.
ونتناول في هذا المقال جانبًا من المرافق العسكرية والتدريب في المدينة المنورة زمن النبوة الذي وضع الأسس، وقدم القدوة لما تلاه.
الحصون والآطام
الأطم هو الحصن، أو هو البناء المرتفع كالحصن(1)، وكانت الآطام عزّ أهل المدينة النبوية التي يعتزون بها، ومنعتهم التي يتحصنون فيها من عدوهم(2)، في بيئة عربية كانت الإغارات فيها طقسًا عاديًا، لسبب داعٍ، أو لأوهي سبب، وقد قال شاعرهم:
يُغار علينا واترين فيُشتفى بنا إن أُصِبنا، أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فلا ينقضي إلا ونحن على شطر
وكانت المدينة واحة خير وسط محيط قاحل، مما مثّل إغراء للقبائل البدوية حولها كي تغير عليها، فتصيب من خيرها وثراء أهلها، كما كانت العداوات قد استحكمت بين أهلها أنفسهم من العرب واليهود، وبين العرب من أوس وخزرج، وبين قبائل اليهود ومن حالفهم من العرب؛ أوسهم وخزرجهم، فكان الداعي إلى التحصن والتحرز كافيًا ووافيًا.
فقد ابتنى اليهود 59 أطمًا، وابتنى العرب النازلون بها قبل الإسلام 13 أطمًا(3)، وأكثرت بعض قبائل العرب من التحصن، حتى إن بني بياضة من الخزرج كان في منطقتهم 19 أطمًا، واشتهرت بعض آطام المدينة حتى سميت الناحية التي أقيمت فيها بأسماء هذه الآطام، مثل السنحوحرة واقم، ومنها ما اشتهر باسم القبيلة، أو باسم من بناها مثل أطم الزبير بن باطا، ومالك بن العجلان، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما.
وكم افتخر شعراؤهم بتلكم الآطام وشموخها، من ذلك قول أحيحة بن الجلاح الفارس الأوسي معتزًا بمنعة حصنه «الضحيان»، وكان يُرى من مكان بعيد:
وقد أعددت للحدثان حصناً لو أنّ المرء تنفعه العقول
طويل الرأس أبيض مشمخرٌّ يلوح كأنه ســـــيف صقيل(4)
فلما كانت الهجرة إلى المدينة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هدم آطام المدينة، وقال: «لا تهدموا الآطام فإنها زينة المدينة»(5)، وبنى الأنصار أُطُمًا جديدة، فبلغ مجموع آطام المدينة مائة وبضعة وعشرين(6)، وقد أفاد المسلمون من هذه التحصينات في جهادهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة الخندق خرج النبي صلى الله عليه وسلم في 3 آلاف حتى جعل ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب عسكره، وجعل الخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجُعلوا في الآطام، فكانت مصدر أمان لهم في هذا الأوان العصيب الذي وصفه الله تعالى بقوله: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (الأحزاب: 10).
كما كانت المدينة تتمتع بتحصينات طبيعية تتمثل فيما يحوطها من حرات شديدة الوعورة، خلا جهتها الشمالية التي تعد نقطة الضعف الظاهرة، وقد غزا المشركون المدينة من هذه الناحية في غزوة «أُحد» سنة 3هـ، كما نزلت بها جموعهم مع حلفائهم في غزوة «الخندق» سنة 5ه، ولجأ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى علاج ذلك الأمر قبل أن يحتدم الخطر وتأتي جموع المشركين وأحلافهم في غزوة «الخندق»، وذلك بحفر الخندق من جهتها الشمالية ليصل ما بين حرتيها، وقد تم إنجازه في مدة وجيزة، بلغت في بعض الروايات 6 أيام، وبلغت في روايات أخرى بضعة وعشرين يومًا، بالرغم من ضخامته، حيث اشترك فيه الجيش جميعه، وقوامه نحو 3 آلاف، وبلغ طوله 1200 ذراع(7)! وكان حفره عملاً مفاجئًا للغزاة، فوقفوا أمامه محسورين، يقولون: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
لم يبنِ المسلمون سورًا حول مدينتهم لتحصينها، كما جرى العادة في بناء العواصم الإسلامية ومدن الثغور، وكان ذلك تصرفًا حصيفًا، أتاح للمدينة ما كانت مهيأة له من امتداد عمراني بتوالي الهجرات إليها من العرب القريبين، بل لم يكن المسلمون بحاجة إلى تحصين المدينة بسور جامع، حيث كان رجالها جميعًا من الجند المجاهدين، الذين يتخذون من سيوفهم وأدرعهم أسوارًا لهم وحصونًا منيعة، أما الحصون والآطام داخل المدينة فقد تراجعت أهميتها بمضي الزمن، وباتساع الدولة الإسلامية، وترامي حدودها.
أماكن التدريب العسكري
عُني المسلمون بالتدريب العسكري استعدادًا للجهاد، وسعيًا لامتلاك أسباب القوة، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخصص أماكن للتدريب، منها ما جعله لسباق الخيل، فقد روى عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحَفْيَاء (موضع خارج المدينة يبعد عنها مسافة تقصر فيها الصلاة)(8) إلى ثنيَّة الوداع (شمال غربي المدينة)، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان عبدالله بن عمر فيمن سابق بها (رواه مالك وأبو داود)، والمسافة بين الحفياء وثنية الوداع 6 أميال، أو 7، والمسافة بين ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل، أو نحوه.
وكانت هذه الساحة نفسها بالقرب من سوق المدينة موضعًا للتدريب على الرمي، كما يفهم من رواية البخاري وغيره: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا، وأنا مع بني فلان- لأحد الفريقين»، فأمسكوا بأيديهم، فقال: «ما لهم؟»، قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: «ارموا وأنا معكم كلكم».
ومن المؤكد أن الخلفاء الراشدين والمسلمون في زمنهم قد حافظوا على ذلك التدريب العسكري، وبخاصة أن سوق الجهاد قد قامت في عصرهم على قدم وساق، فحاربوا قوى المرتدين في شتى أنحاء الجزيرة العربية، ثم انفتحت أمامهم جبهات فارس والروم.
______________________
(1) الخليل بن أحمد: كتاب العين (7/ 463)، ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 54).
(2) ابن النجار: الدرة الثمينة (1/ 28)، السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 130).
(3) ابن النجار: المرجع السابق، ص28.
(4) السمهودي: مرجع السابق (1/ 154).
(5) البزار: البحر الزخار (12/ 230)، الطحاوي: شرح معاني الآثار (4/ 194)، العيني: عمدة القاري (10/ 229).
(6) القاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (2/ 390).
(7) السمهودي: مرجع السابق (4/ 73).
(8) الزرقاني: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (3/ 71).