يصنف د. عبدالوهاب المسيري كواحد من أبرز نقاد الحداثة العرب، إذ شغل مشروع التحديث موقعاً متقدماً ضمن أولوياته العلمية منذ وقت مبكر، وتحفل الموسوعة اليهودية التي استغرق إعدادها زهاء ربع قرن بالانتقادات للمشروع الذي أطاح بالإله عن مركز الكون وأحل الإنسان محله، وانتهت به الحال إلى تقويض الإنسان وإحلال مجموعة من الثوابت والمطلقات المادية محله، مثل: المنفعة المادية، والتقدم، ومعدلات الإنتاج، واللذة.
تعود الجذور التاريخية للحداثة إلى مطالع عصر النهضة الأوروبية، ومنذ ذلك الحين مرت بثلاث مراحل، كما يقول المسيري، استهلت بالتحديث الذي امتد منذ عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر الذي تصاعدت خلالها وتيرته، ثم مرحلة الحداثة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى حيث تحولت المجتمعات الغربية من كونها مجتمعات زراعية إقطاعية وشبه إقطاعية إلى مجتمعات تجارية، وأخيراً ظهرت مرحلة «ما بعد الحداثة» مع تحول هذه المجتمعات من مجتمعات صناعية إلى مجتمعات رأسمالية إمبريالية. (الموسوعة اليهودية، ج 6، ص 92).
ومشروع التحديث الغربي في اعتقاد المسيري انطلق من فكرتين جوهريتين ودار حولهما؛ الأولى: الإيمان بضرورة مواجهة الإنسان الكون دون وسائط، حراً تماماً من قيود الحضارة والتاريخ والأخلاق، رافضاً أي غيبيات أو ثوابت أو مطلقات متجاوزة لعالمه المادي ولحدود عقله، فالإله إما غير موجود، وإن وجد فهو لا يتدخل في شؤون هذه الدنيا، ويتركها للإنسان يسيرها حسب ما يراه.
والثانية: تحول المادة أو ما يسميه «الطبيعة/المادة»، لتصبح مركز الكون بدلاً من الإله أو الإنسان، فقوانينها تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء، وهي قوانين لا هدف لها ولا غاية، ولا تمنح الإنسان أية أهمية خاصة.
والحداثة ظاهرة تاريخية مركبة، لذلك لا يتبنى المسيري تعريفاً واحداً لها، وإنما يسوق أكثر من تعريف، ومن أهمها تعريفها بوصفها «مشروع نزع الألوهية عن العالم»، وهو ما يعني ألا يؤله الإنسان شيئاً، وألا يعبد شيئاً ولا حتى ذاته، وألا يجد في الكون أي شيء مقدس أو رباني أو حتى نصف رباني، ومن ثم، لا توجد مقدسات أو محرمات من أي نوع، فلا حاجة لتجاوز المعطى المادي (الزماني المكاني)، فالإنسان يوجد في عالمه المادي لا يتجاوزه.
وفي تعريف آخر، يذهب المسيري إلى أن الحداثة هي القدرة على تغيير القيم بعد إشعار قصير للغاية، وهو تعريف يعني أن جوهر الحداثة يعني السكون والثبات؛ أي رفض وجود مطلقات كلية، كما يعني السيولة؛ إذ يفضي التغير والحركية المفرطة إلى غياب المركز الذي يمكن أن يلتف حوله الوجود الإنساني.
وترتبط الحداثة ترابطاً عضوياً بظاهرتين غربيتين، وهما: العلمانية والإمبريالية، والحداثة عند المسيري هي الوجه الآخر للعلمانية، فالتحديث والحداثة وما بعد الحداثة هي مراحل ثلاث في متتالية وسيرورة العلمانية، إذ العلمانية ليست جوهراً ثابتاً يتبدى كله في عالم التاريخ دفعة واحدة، وإنما متتالية تتحقق حلقاتها تدريجياً عبر الزمان في الاقتصاد والسياسة والسلوك، وحين تسري قوانين العلمانية على مجال من مجالات النشاط الإنساني، فإن هذا المجال ينفصل عن المعيارية والغائية الدينية والأخلاقية، ويصبح مرجعية ذاته، فالاقتصاد تسيره قوانين الاقتصاد بعيداً عن أي مرجعيات دينية وأخلاقية خارجية.
وأما الإمبريالية فلا يمكن فصلها هي الأخرى عن الحداثة، ذلك لأن تراكم رؤوس الأموال الذي جعل تشييد البنية التحتية الهائلة في الغرب ممكناً، هو في واقع الأمر «تراكم إمبريالي»، فهو نتاج العملية الاستعمارية التي بدأت بالاحتكار «المركنتالي»، وانتهت بالتقسيم الإمبريالي للعالم، كما أن كثيراً من مشكلات التحديث الغربية من بطالة وانفجار سكاني وسلع زائدة، تم حلها عن طريق الاستعمار؛ أي عن طريق تصديرها للشرق. (الموسوعة، ج2 144).
مارس المسيري نقداً مزدوجاً تجاه الحداثة؛ إذ لم يكتف بممارسة النقد النظري بحق أطروحاتها الفكرية والأسس التي تأسست عليها، وإنما أسهم عملياً في صوغ معالم منهجية لتقويض الحداثة على مستويين؛ الأول: مشروع «فقه التحيز»، والثاني: البحث عن بديل حضاري لمشروع الحداثة.
ويعد فقه التحيز واحداً من الإسهامات الأصيلة للمسيري، إذ اقترح من خلاله تأسيس حقل معرفي يسعى إلى دراسة التحيزات الكامنة في المناهج والعلوم الغربية التي يصفها دوماً أنها غير محايدة، وإنما تنطوي على منطلقات وتحيزات فكرية تجاه كل ما هو غير غربي، ويلاحظ أن المسيري أطلق على هذا الحقل اسم «فقه»، ولم يختر له اسم «علم التحيز»، مشيراً إلى أن الأولى تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي للمعرفة، على عكس كلمة «علم» التي تحمل معاني الدقة واليقينية والموضوعية الزائفة.
وقد انطلق المسيري في فقه التحيز من سؤال مركزي: ما أهم تحيزات الحداثة الغربية؟ وهل تصلح لأن تكون أساساً للنهضة الإسلامية كما يعتقد التنويريون العرب؟ ومن خلال التحيز توصل إلى أن القيم الغربية التي يدعي الغرب عالميتها هي قيم منحازة وتعبر عن النموذج الحضاري الغربي ولا تعبر عن الحضارات الأخرى، ومن هنا دعا الباحثين العرب إلى نبذ المناهج الغربية وإبداع مناهج عربية إسلامية تعبر عن الذات الحضارية.
وانطلاقاً من هذا، سعى المسيري جاهداً في صوغ معالم نموذج بديل للحداثة يستند إلى تراثنا الإسلامي، وهو يتسم بكونه نموذجاً توليدياً غير تراكمي، ينطلق من الإنسان ولا ينطلق من المادة التي يتمركز حولها المشروع الحداثي الغربي، ولا يعتمد النظرة الضيقة التي تفترض أن ثمة نقطة واحدة تتقدم إليها الظواهر كلها وهي «التقدم المادي اللانهائي»، وكأن هناك أمة واحدة ومعرفة واحدة، وعليه يؤكد النموذج البديل على أن التعددية والخصوصية الحضارية واحترام الإنسان وعدم ادعاء الكمال ووصم الآخرين بالدونية.
وبالجملة، قدم المسيري انتقادات جوهرية لمشروع الحداثة الغربي، داعياً إلى إبداع نموذج بديل له يعبر عن القيم والخصوصية الحضارية الإسلامية.