قرر الفقهاء عدة قواعد قبل إطلاق الحكم على مسألةٍ ما، ومن هذه القواعد «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، فلا ينبغي للفقيه الحكم على شيء إلا بعد أن يتصوره تصوراً تاماً؛ كي يكون الحكم مطابقاً للواقع، وإلا حصل خلل كبير في الحكم، لذلك اضطربت كثير من الفتاوى التي عالجت موضوع الماسونية عند ظهورها؛ إذ كان لا يعرف حقيقتها كثير من الفقهاء، وكذلك في الحكم على التدخين حيث لم يكن يعرف ضرره على وجه اليقين، وغيرها من مسائل تتطلب الإحاطة التامة بها كي يفهمها الفقيه فهماً صحيحاً دقيقاً.
منطلقات «الصهيونية العالمية» عقائدية عنصرية تسعى لتحقيق هدف «إسرائيل» باعتبارها دولة يهودية لكل اليهود
ومن هذه المسائل الحكم على منظمة الصهيونية العالمية وما نتج عنها من مؤسسات؛ وبالتالي الحكم على التعامل معها وعلى الانخراط في بعض مشاريعها وأنشطتها، وعليه ينبغي أن نتعرف أولاً على هذه المنظمة ونتبين حقيقتها وأهدافها وأساليبها.
التأسيس والمنطلقات
أول من استخدم مصطلح صهيونية هو الفيلسوف اليهودي النمساوي ناتان بيرنباوم في عام 1893م، وبنى ذلك من كلمة «صهيون»، وهو أحد الأسماء التوراتية التي تشير للقدس، فصهيون اسم جبل في القدس، ونحت منه مصطلح الصهيونية للدلالة على أيديولوجية جديدة تصاغ فيها الهوية اليهودية على أساس أنها أمّة مستقلة ذات سيادة.
ويمكن تعريف منظمة الصهيونية العالمية بأنها حركة سياسية أيديولوجية ظهرت بين يهود شرق ووسط أوروبا بهدف إنشاء وطن قومي لليهود باستعمار بلاد خارج أوروبا، تمخض عنها تأسيس دولة إثنوقراطية في فلسطين عام 1948م، وقد أدت هذه المنظمة دوراً محورياً في تأسيس «دولة إسرائيل»، والترويج للأفكار الصهيونية عالمياً، وتأسست في مدينة بازل بسويسرا في 30 أغسطس 1897م، حيث نجح مؤسسها ثيودور هيرتزل بعقد «المؤتمر الصهيوني»(1) الأول، ونتج عن هذا المؤتمر أمران:
الأول: الإعلان عن البيان الأول للحركة الصهيونية الذي عرف بـ«برنامج بازل» الذي يهدف لإنشاء وطن قومي لليهود يضمنه القانون العام.
والثاني: تأسيس «منظمة الصهيونية»؛ وهي إطار تنظيمي يضم جميع اليهود الذين يوافقون على برنامج بازل، وفي عام 1960م أصبح اسمها الرسمي -الحالي- «منظمة الصهيونية العالمية».
اغتصاب الأراضي الفلسطينية من قبل الحركة الصهيونية يُعد تعدياً على حق المسلمين في أرضهم ومقدساتهم
فمنطلقات منظمة الصهيونية العالمية عقائدية عنصرية تسعى لتحقيق هدف دولة «إسرائيل» باعتبارها دولة يهودية لكل اليهود، بمعنى أنه يحق لكل يهودي على وجه الأرض أن يصبح مواطناً «إسرائيلياً» لمجرد كونه يهودي الديانة، وفي المقابل، فإن غير اليهودي المقيم على أرض فلسطين المحتلة سواء في المناطق المحتلة عام 1948 أو تلك التي احتلت عام 1967م لا يعتبرون مواطنين شرعيين، على الرغم من كونهم أصحاب الأرض الأصليين، وقد نجح الصهاينة بإقرار قانون يهودية الدولة رسمياً في 19 يوليو 2018م بعد عرضه لأول مرة في «الكنيست» عام 2011م.
ومن أهداف الصهيونية العالمية أيضاً:
– تشجيع هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين المحتلة، وهي من أجل ذلك تقوم بتذليل جميع العقبات التي قد تحول دون ذلك.
– جمع الأموال لدعم المشروع الصهيوني، فقد أنشأت منظمة الصهيونية العالمية صناديق عديدة لجمع التبرعات، مثل صندوق «الكيرن هايسود» لدعم الاستيطان في المناطق المحتلة عام 1967م.
– تعزيز الهوية اليهودية والثقافة الصهيونية؛ لذلك فإنهم يقومون بتعزيز فكرة الانتماء لما يسمى بـ«أرض الميعاد»، ويحرصون على إحياء اللغة العبرية كلغة قومية لليهود.
ولتحقيق هذه الأهداف، فإن المنظمة لا تمتنع عن ارتكاب أي وسيلة لاغتصاب ما أمكن من الأراضي الفلسطينية بشتى الطرق (الاحتيال، الإكراه، التواطؤ مع الإنجليز سابقاً ومع غيرهم حالياً.. إلخ)، ولعل أبرز أدواتهم وأنشطتهم لتحقيق أهدافهم ما يأتي:
– حشد دعم القوى الدولية لتوفير الدعم المطلق غير المشروط وغير المحدود لدولة الكيان الغاصب، وذلك عبر تأسيس «لوبيات» قوية للتأثير على أصحاب القرار في الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة التي يوجد فيها أكبر «لوبي» صهيوني، حيث يتسابق مرشحو الرئاسة الأمريكية لإرضائهم.
– استخدام صناديق جمع الأموال مثل «الصندوق القومي اليهودي» لشراء الأراضي وتمويل المشاريع الاستيطانية.
– التحكم في التعليم والإعلام، عبر إنشاء المدارس والسيطرة على الجامعات ومراكز البحث العلمي والأدبي، وامتلاك وسائل الإعلام المختلفة، والضغط على الكتَّاب والمعارضين لفكرة الصهيونية تحت إرهاب فكرة معاداة السامية التي أصبحت تعني معاداة «إسرائيل» مهما كان المبرر، وتصوير اليهود كضحايا على الرغم مما يرتكبونه من جرائم حرب.
الصهيونية جزء من مخطط أوسع لتفكيك الأمة الإسلامية واستنزاف مقدراتها وقد أُمرنا بمقاتلة من يقاتلنا
الصهيونية والعالم
صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3379)، الذي اعتمد في 10 نوفمبر 1975م بتصويت 72 دولة بـ«نعم»، مقابل 35 بـ«لا» (وامتناع 32 عضواً عن التصويت)، يحدد القرار أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي، حسب القرار، تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين، وكثيراً ما يستشهد بهذا القرار في المناقشات المتعلقة بالصهيونية والعنصرية، لكن -ومع الأسف- ألغي هذا القرار بموجب القرار (46/ 86)، في 16 ديسمبر 1991م، إذ اشترطت «إسرائيل» إلغاء القرار (3379) لقبولها المشاركة في مؤتمر مدريد 1991م.
الموقف الشرعي من الصهيونية العالمية:
بعد هذه الإطلالة الموجزة حول الصهيونية العالمية، فإنه من البدهي أن يرفض فقهاء الشريعة الإسلامية الصهيونية العالمية، وبالتبع رفض أي معاملة تؤدي لتقويتهم وتسهل لهم تحقيق أهدافهم الإجرامية، استناداً إلى أسس دينية وأخلاقية وسياسية تتعلق بمبادئ الإسلام وقيم العدالة، وأيضاً بناءً على فهم تاريخي ومعاصر للحركة الصهيونية وأهدافها، فيما يلي أهم الأسباب التي يستندون إليها:
أولاً: رفض اغتصاب أي أرض إسلامية:
كما رأينا فإن الصهيونية العالمية قامت على فكرة الاستيلاء على أرض الغير، وفكرة اغتصاب حق الغير مرفوضة شرعاً بشكل عام، فكيف إن كانت أرضاً مقدسة هي مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم وفيها القبلة الأولى للمسلمين، وهذا جزء من عقيدة المسلمين لا ينفك عنهم، وفلسطين في التوصيف الفقهي هي وقف إسلامي لا يجوز التنازل عنها أو التصرف فيها على وجه يضر بمصلحة الإسلام والمسلمين من أي جهة كانت، فاغتصاب الأراضي الفلسطينية من قبل الحركة الصهيونية يُعد تعدياً على حق المسلمين في أرضهم ومقدساتهم.
والشريعة الإسلامية تحرم العدوان والظلم، وبما أن الصهيونية العالمية قامت على تهجير السكان الفلسطينيين بالقوة وارتكاب المجازر فيها، وهذا يتناقض مع مبادئ الإسلام وأحكامه التي تحرم الظلم وتجرمه، وقد حرم الإسلام الاعتداء على الآخر قال تعالى: (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).
ثانياً: معارضة الصهيونية للتعايش مع غيرهم:
الإسلام دين عالمي سمته الرحمة للجميع لا يفرق في الحقوق والواجبات بين مواطنيه مهما كان دينهم أو لونهم أو عرقهم، على نقيض الصهيونية التي تقوم على أساس العنصرية وإقصاء الآخر ورفضه ومحاولة سلب حقوقه، فتهجير أصحاب الأرض وسلب حقوقهم مشروع أصيل للصهيونية يتعارض تماماً مع مبادئ الإسلام الرئيسة التي تدعو إلى العدل واحترام حقوق الآخرين وإن كنا نبغضهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).
حُرمة التطبيع مع الكيان الصهيوني ومعاونته والتحالف معه ووجوب مقاطعته اقتصادياً وسياسياً ورياضياً وثقافياً
ثالثاً: رفض فكرة العنصرية ومبدأ التفوق العرقي:
الناس سواسية في الإسلام أصلهم واحد وربهم واحد، وفي الحديث: «يا أيها الناس، إن ربكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»(2)، بينما يرى الصهاينة أن اليهود شعب الله المختار وأن غيرهم مجرد خدم مسخرين لخدمتهم، وأنهم دون غيرهم أبناء الله وأحباؤه، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ) (المائدة: 18).
رابعاً: رفض التحالف مع الظالمين:
نهى الإسلام عن التعاون مع الظالمين أو مساعدتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود: 113)، وقال: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وبما أن الصهيونية قامت على الظلم والعدوان لتحقيق أهدافها فإن دعمها بأي شكل من الأشكال محرم شرعاً.
خامساً: رفض الهيمنة الغربية والاستعمار:
انطلاقاً من كون الصهيونية أداة في المخطط الغربي الاستعماري، أو انطلاقاً من التحالف الصهيوني اليهودي مع الصهيونية المسيحية الغربية الذي يسعى للسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي، فتأسيس دولة «إسرائيل» كان بدعم غربي غير محدود، والإسلام يرفض هيمنة الغرب المستعمر سواء باحتلال مباشر كما كان قبل إنشاء دولة الكيان، أو بشكل غير مباشر بعد انتهاء الاستعمار في الظاهر وبقاء أدواته على الأرض، التي من أبرزها الكيان الصهيوني، فما الصهيونية إلا جزء من مخطط أوسع لتفكيك الأمة الإسلامية واستنزاف مقدراتها، وقد أمرنا بمقاتلة من يقاتلنا، قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) (البقرة: 190)، وقال: (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191).
ويترتب على ما سبق حرمة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وحرمة الانتماء إلى أي مؤسسة تنبثق عن الصهيونية العالمية، وحرمة معاونتهم والتحالف معهم، ووجوب مقاطعتهم اقتصادياً وسياسياً وعلمياً ورياضياً وثقافياً، ووجوب قتالهم حتى يخرجوا من أرض المسلمين، وجهادهم هو واجب الوقت على الأمة الإسلامية.
ومن العار أن يكون بعض أبناء الأمة الإسلامية يسيرون في ركاب الصهيونية العالمية من حيث يعلمون أو من حيث لا يشعرون، في حين أن هناك من اليهود من يعارض فكرة الصهيونية من الأساس مستندين إلى أسباب دينية، أو ثقافية، أو أيديولوجية.
________________________
(1) المؤتمر الصهيوني: هو الهيئة العليا لمنظمة الصهيونية العالمية، يجتمع مرة كل 4 سنوات لانتخاب رئيس المنظمة ومجلسها العام ولجنتها التنفيذية.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية (3/ 100)، والبيهقي في الشعب (ح5137).