الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
كلمة ماتعة تحدد ملامح شخصية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قوله: «لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم»(1)، فالحليم أرحب الناس صدراً وأطولهم صمتاً وأعمقهم فكراً وأصوبهم رأياً، يعفو في موطن القوة، ويتجاوز وبيده الغلبة، ويحسن رجاء الرأفة والرحمة.
يقول ابن حبان: «الحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام، وهو يشتمل على المعرفة والصبر والأناة والتثبت، ومن يتصف به يكون عظيم الشأن، رفيع المكان، محمود الأجر، مرضيّ الفعل، ومن أجل نفاسته تسمى الله به، فسمى نفسه حليماً»(2).
ولقد كان لمعاوية من الحلم النصيب الأوفى والغاية القصوى والمكانة الفضلى، ساد الناس بالحلم، وقادهم بالعلم، ومن صحب الناس بلسان صادق وعاملهم بحسن الخلائق فقد أرضى المخلوق والخالق.
من الآيات القرآنية المباركة التي تدفع صاحبها إلى التحلي بالحلم والتخلي عن الانتقام والظلم قول الله جل وعلا: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت)، وعن تفسيرها وبديع ما فيها يقول صاحب «الظلال»: «إن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة، والصبر والتسامح والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر برد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين.
الحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام وهو يشتمل على المعرفة والصبر والأناة والتثبت
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)؛ وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، وينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء على كلمة طيبة ونبرة هادئة، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام، غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً، ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً»(3)، وهذه القاعدة هي قطب الرحى في حياة معاوية.
إياك وبطشة الأسد!
الحلم والدهاء صفتان كريمتان، وخلّتان عظيمتان تميز بهما معاوية بن أبي سفيان، وسار بذكره الركبان، فقد كان جالساً يوماً فدخل عليه رجل اسمه الجهم، فسأله معاوية: أتراني أكبر منك سناً أم أنت أكبر؟ فقال له الجهم: يا أمير المؤمنين، لقد كنتُ تقدمت لخطبة أمك حينما رأيتها جالسة، وقامت لتدخل في بيت أبيها، فأعجبني ما رأيت من تقاسيمها وعجيزتها، فسبقني إليها أبو سفيان، وسكت.
فقال له معاوية: رحم الله هنداً، لقد كانت تنتقي الرجال، ثم وضع له طعاماً، فلما أكل الرجل قال: يا غلام، عليَّ بأربعين ألفاً، فأخذها وأعطاها للجهم، ثم قال له: خذ هذا المال فتقوَّ به على حياتك، وإياك أن تقترب من الملك، فإن الملك يسرع في الغضب سرعة الأطفال، ويبطش بطشة الأسد، وإياك أن ترجع لمثل هذا، فقبَّل الرجل رأسه وقال: جزاك الله عنا خيراً من أمير، فوالله لقد كنتُ أختبر حِلمك، وقد رأيتك خليقاً بالإمارة.
ونغضبه لنخبر حالته فنخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنا نميل إذا نميل على أبينا(4)
من فقه الكبار أن الوقائع أصدق من إطراء المادح، وغمز القادح، وفي هذه الواقعة عدة دروس تربوية هادفة، منها:
أولاً: هذا سؤال لطيف من معاوية العفيف، وجوابه غليظ عنيف، سلقه الأعرابي بألسنة حداد وعبارات شداد يأنف منها الحاضر والباد، فجاء رد معاوية هادئاً هدوء النسيم، وبلسماً كدواء السقيم؛ «رحم الله هنداً، لقد كانت تنتقي الرجال»، لديه القدرة على الإيذاء والأخذ بالسطوة، لكنه جنح إلى الإغضاء وإنزال الشفقة، وهذا هو الحلم في أحلى تجلياته وأعلى كمالاته.
ثانياً: بذل جزيل العطاء مع شدة الجفاء، وغاية الكرم مع وخز الألم؛ «خذ هذا المال فتقوَّ به على حياتك»، وهذا نهج العظماء وسبيل الكرماء.
كان لمعاوية من الحلم النصيب الأوفى والغاية القصوى والمكانة الفضلى ساد الناس بالحلم وقادهم بالعلم
ثالثاً: مقام الإمارة عظيم وخيره عميم ويحتاج مع الحلم إلى الحزم، ومع اللين إلى العزم، وكم قلّمت عصا الحزم من أظافر الإجرام والعصيان والزور والبهتان! «وإياك أن ترجع لمثل هذا».
رابعاً: عاقبة الحِلم جميلة، وثمرته جليلة، أذعن له الأعرابي بالفضل، وقبَّل رأسه بالعدل، ولهج بالثناء عليه، وجدد البيعة بين يديه؛ «لقد كنت أختبر حِلمك، وقد رأيتك خليقاً بالإمارة»، ويبقى الحِلم خلق الأقوياء وطريق الأمناء.
قمة الإنصاف
العلَّامة ابن أبي الدنيا ألَّف كتاباً ممتعاً عن حلم معاوية، ذكر فيه نماذج كثيرة عن حلمه مع محبيه ومخالفيه، مادحيه وقادحيه، أما الإمام الحافظ الذهبي فقال كلمة عن معاوية غاية في الإنصاف والتجرد، أشاد فيها بحلمه وعلمه، علها تكون للناس نبراساً منيراً وطريقاً قويماً.
قال: «حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم وهو ثغر فيضبطه ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك، وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور والله الموعد، وكان محبباً إلى رعيته، عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم(5).
وإنك لتعجب من حكمته وقدرته على استيعاب الخصوم وتصحيح مفاهيمهم المغلوطة وإبطال دعاويهم الفاسدة التي تدعو إلى الفتنة وتفكيك الصف وتمزيق الوحدة، وهذا ما امتاز به معاوية؛ اتبع الحزم، واتبع الحلم.
ورحم الله أمه التي رأت فيه من الطفولة مخايل النجابة ومؤهلات الريادة!
__________________
(1) الإحياء (3/ 178).
(2) روضة العقلاء، ص 308.
(3) في ظلال القرآن (5/ 3122).
(4) العقد الفريد (1/ 50).
(5) سير أعلام النبلاء (3/ 132).