بينما يتحدث ما يربو على 450 مليون شخص حول العالم باللغة العربية، باعتبارها واحدة من أكثر 5 لغات تحدثاً حول العالم، وبينما تقر 25 دولة حول العالم اللغة العربية كلغة رسمية، تعايش اللغة العربية انحداراً ملحوظاً متعدد المظاهر يؤكد بأن الأرقام وحدها لا تكفي للإخبار عن واقع العربية ومدى الارتباط بين الواقع المتردي للغة العربية وانعكاساته المختلفة على تدهور الهوية العربية والإسلامية ومستقبل النهضة العربية المأمولة.
اللغة والإسهام الحضاري
يوماً ما كانت اللغة العربية محط اهتمام العالم ولغة العلوم والفنون، ونشطت حركة الترجمة من الحضارة الغربية لنقل المعارف من العربية والنهل من إنجازات واختراعات تلك الحضارة، واليوم رغم ذيوع العربية كواحدة من أبرز اللغات في العالم، فإن أحدث إحصاءات الأمم المتحدة تؤكد أن حجم المحتوى المكتوب بالعربية على شبكة الإنترنت لا يتجاوز 3%، ناهيك عن مضمون ذلك المحتوى ومدى إسهامه في التراكم العلمي ومدى ما يتسم به هذا المحتوى من السطحية والتكرار والنسخ.
من هنا يشير الانحدار اللغوي إلى تراجع اللغة عن الإسهام العلمي في كافة المجالات وانصراف المثقفين والعلماء عن استخدام اللغة العربية في تدوين أفكارهم وأبحاثهم واستخدام اللغات الأخرى وخاصة الإنجليزية في التدوين والبحث العلمي وكتابة المحتوى؛ ما يؤدي بمرور الوقت إلى تراجع اللغة العربية كلغة علمية وحضارية، بالإضافة إلى تراجع استخدامها بين المتحدثين بها لتراجع أهميتها وحلول اللهجات المحلية محل العربية الفصحى؛ وهو ما يعني دخول اللغة العربية بمرور الوقت إلى «المتحف» اللغوي والتاريخي وتوثيق صلاتها بالماضي والتاريخ على حساب الحاضر والمستقبل.
اللغة والهوية
وبينما تعتبر اللغة جسراً للتواصل بين البشر وأداة لنقل المشاعر والأفكار والمعتقدات وبنية يتم التفكير بها ومن خلالها، تمتلك اللغة العربية امتيازاً وتكريماً إسلامياً بنزول الوحي الإلهي مرسوماً على حروفها ومتسلحاً بقواعدها ومعجزاً في توظيفها لنشر الرسالة المحمدية، وهو ما يؤهلها لتكون لغة حاضرة بقوة على ألسنة وقلوب وعقول المسلمين من العرب وغير العرب بشكل يومي إلى قيام الساعة.
ذلك الارتباط الوثيق بين الإسلام واللغة العربية يعني أن الأمة الإسلامية محكومة في بحثها الذاتي عن سؤال الماهية والهوية أن تتسلح بسلاح اللغة، كما يؤكد بأن إجابات النهضة والإصلاح واستعادة الأمجاد من غير الجائز الوصول إليها من دون نهضة لغوية شاملة تُعيد الاعتبار للغة العربية بين الأجيال الجديدة والنشء، ويتطلب ذلك العمل على عدد من المحاور المهمة.
السلاح اللغوي
تظهر متانة العلائق فيما بين اللغة والهوية بشكل جلي في مراحل متنوعة من تاريخنا الحديث، إذ عمد المحتل في حملاته التي أطلق عليها بهتاناً «استعمارية» إلى اللغة كأول حصن لهدمه وإضعاف مقاومة البلاد الإسلامية، فبرز الاحتلال اللغوي كجزء لا يتجزأ من كافة الأنظمة الكولونيالية بدءاً من القرن الثامن عشر، وفُرضت اللغات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية والتركية وغيرها لتمييع الهوية وتذويب المسلمين وطمس حضارتهم إلى الأبد، وكان التعليم هو الوجهة الأهم للاحتلال اللغوي عبر تعزيز انفصال الأجيال الناشئة عن حضارتهم عبر استبدال لغة المحتل وثقافته وتاريخه وحضارته بلغتهم الأم.
وفي مواجهة تلك الحملات لمحو الهوية الحضارية عبر اللغة، كانت انبعاثات إصلاحيه مهمة أدركت محورية سلاح اللغة كسلاح للمقاومة والنهوض في وجه المؤامرات، ومن مصر والهند وباريس والجزائر وسائر أنحاء العالم برزت المنابر اللغوية ممثلة في مجلات «الوقائع» و«العروة الوثقى» و«الشهاب» كأدوات إصلاحية لمقاومة الاحتلال والتغريب والانكفاء العربي عبر الدعوة للإصلاح الشامل وخاصة إصلاح التعليم الإسلامي والعربي وإعادة الاعتبار لمركزية اللغة للتعبير عن متطلبات العالم الإسلامي والاستجابة لمطالبة وحاجاته لنيل حريته ونهضته المنشودتين.
وبرز في مصر مشروع محمد عبد الإصلاح الذي ارتكز بالأساس على إصلاحية تعليمية استهدفت مؤسسة الأزهر عبر الدعوة إلى إدخال كافة أفرع العلم إلى التعليم الإسلامي باللغة العربية للنهوض بالتعليم الإسلامي وعصرنته وتحديثه لمواكبة تحديات العصر، والاضطلاع بدوره في تثقيف وتنوير الشباب باستخدام لغتهم الأم.
آليات إصلاح اللغة العربية
وللنهوض بالعالم العربي من كبوته الطويلة يجب أن تحوز اللغة الخطوة الأولى للإصلاح من أجل العمل على تطويرها لتواكب العصر، ومن ثم تصبح قادرة وجاهزة للاستخدام في كافة مجالات العلم والمعرفة، بل والحياة اليومية، وذلك من خلال الآليات الآتية:
1- التدوين بالعربية: يشمل التدوين باللغة العربية العمل على تعزيز ودعم جودة المحتوى العربي، ففي تلك المرحلة وإن كان المحتوى العربي على الإنترنت شحيحاً نتيجة لاعتبارات كثيرة، فإن الاهتمام في تلك المرحلة الأولية يجب أن ينصب على إستراتيجيات الكتابة العربية وتطوير الأساليب وتوثيق المعلومات وتعميق الاهتمامات لرفع جودة المحتوى العربي وتفعيل تأثيره في تثقيف كافة فئات المجتمعات العربية.
2- البحث العلمي: ينطوي دعم البحث العلمي ورفع ميزانياته على اضطلاع الجامعات العربية والإسلامية بدورها في تشجيع طلاب العلم على إجراء البحوث في كافة أفرع العلم باللغة العربية؛ لإثراء المحتوى العلمي العربي، والمساهمة في إدخال كافة المصطلحات والنظريات العلمية إلى العربية.
3- الترجمة والتعريب: تتطلب تلك الآلية إرادة سياسية عليا تعمل على استجلاب واستنساخ التجربة العباسية في نقل العلوم والمعارف عبر الترجمة خلال العصرين العباسيين الأول والثاني، وفي تلك المرحلة يجدر العمل على التعريب الذي يضمن أن تتماشى تلك العلوم المنقولة إلى العربية مع القيم والثقافتين العربية والإسلامية وليس مجرد نقل العلوم والنظريات دون نقد أو تمحيص، ومنح أولوية للعلوم الطبيعية والمنجزات والاكتشافات العلمية لتعضيد اللغة العربية بأحدث ما توصلت إليه كافة الأمم الأخرى من مستجدات في فروع العلم والمعرفة كافة.
4- عصرنة اللغة: انتقلت اللغة العربية نتيجة تراجع الاستخدام اليومي إلى الانحصار في بعض أروقة الدراسة الأكاديمية في بعض الفروع التعليمية الدينية والتراثية والتاريخية دون غيرها، وأصبحت ممارسة اللغة العربية ممارسة شعائرية تنبع من كونها لغة القرآن والصلاة؛ ما زاد من اغتراب اللغة فيما بين الناطقين بها، كل تلك العوامل قد دفعت إلى جعل اللغة العربية لغة عتيقة وكلاسيكية غير ملائمة للعصر، وهو ما يتطلب جهداً لغوياً لعصرنة اللغة وإكسابها الطابع الحديث بإدخال المجامع اللغوية لأحدث المصطلحات والكلمات المتداولة يومياً وخاصة بين الشباب وترجمتها للعربية لخفض الاحتياج اليومي لاستخدام اللغات الأجنبية باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة للتعبير عن العصر.
إن اللغة العربية خاضت حروباً طويلة إزاء محاولات الطمس والقمع طوال عقود تسلحت فيه بإيمان أبنائها وناطقيها بها، وصمدت بفضل تمسكهم بلغتهم وافتخارهم بالتحدث باللسان العربي المبين، أما وقد تبدلت الأحوال وصارت العربية وصمة في مقابل السعي المحموم لاكتساب اللسان الأجنبي باعتباره وسيلة للترقي الاجتماعي والثقافي والعلمي والوظيفي، باتت العربية في خطر محدق نتيجة انفصال ضخم بين الأجيال العربية الجديدة ولغتهم الأم؛ ما يتطلب جهوداً سياسية واجتماعية جماعية تتفهم الارتباط الوثيق بين اللغة والهوية، وتدرك حجم المؤامرة التي تتخذ من محو اللغة خطوة أولية للحيلولة دون نجاح أي محاولات نهوض عربية مستقبلية، لكن الوعي القوي يتطلب ابتداءً قدرة على التفكير النقدي باستخدام اللغة العربية.