لقد أصيبت أكثر بلاد العالم الإسلامي بسيولة عجيبة، فلم تعد أكثر البلاد صالحة للاستمرار على حالتها تلك، حيث عشش الظلم والفساد فيها فأكل قلبها، ولم يعد أكثرها مؤهلاً للمعالجة والتعايش، بل تزداد أرضها كل يوم سيولة واهتزازا وانهياراً!
وغابت أثناء ذلك الكثير من الثوابت، فلا ثوابت عقدية راسخة تربط الناس بربهم، ولا ثوابت إنسانية متأصلة توثق علاقة الناس بمحيطهم الاجتماعي، ولا ثوابت قيمية تحمي الناس من تيارات جارفة من الانحلال والانجراف!
وقد تعفنت أكثر الأنظمة حتى أضحت هي والعدم سواء، بل إن العدم أفضل من بقائها، ولم تعد فيها قدرة على المدافعة، بل وصلت في الاستسلام والتسليم والخنوع إلى مستوى منقطع النظير، فلم يكن العربي البدوي الجاهلي يرضى أن يعيش حياة على النحو الذي تعيشه أغلب الأنظمة في المنطقة!
وغابت الحركة الإسلامية العامة عن التأثير في محيطها الإقليمي والعربي، وأصابها ما أصاب القوم من تفرق وتنازع، وغفلة وتشتت وتيه.
إن الأرض السبخة والنفوس العفنة والعقول التافهة لا يمكن أن تبني أمة، أو أن ترفع راية، أو أن تنهض بقومها، ناهيك أن تقود العالم، وتغير أنماط حياته إلى نحو أفضل.
هل من أمل في الإصلاح
الأمة الإسلامية ومعها العالم كله يتأهبون لطوفان يأتيهم من ليلهم قبل نهارهم، وصباحهم قبل مسائهم، فهل تنتظر الأمة الطوفان الجارف، أم تستسلم للموت السريري، أم لديها فرصة للنهوض، وإمكانية لميلاد جديد، تتخلص فيه من أزماتها، وتلبس فيه جسداً جديداً عفياً قوياً راسخاً؟
نعم، يمكنها أن تولد من جديد، يمكنها أن تتنادى الآن لصناعة السفينة، يمكنها أن تشارك في خطوات البناء بصرف النظر عن المكان أو المكانة، يمكنها أن تستعد لركوب السفينة وتتأهب لمواجهة الطغيان.
إن محاولات ترقيع الثوب البالي لا تصلح في مثل تلك الحالات، ومحاولة التعايش مع الأموات لا تناسب حملة الرسالات، والرضا بحياة كأي حياة لا تليق بمن أكرمهم الله تعالى بالفهم والإدراك.
إن المراكب التي طال عليها المقام في الأوحال لا تصلح للإبحار، فقد تماهت مع الطين فتعفنت رائحتها، وتعطلت محركاتها، ومضى زمنها!
فماذا تفعل الأمة وهي تدرك أن وراءها فتناً ولكنها ليست كأي فتن، إنها فتن كالجبال؛ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (هود: 42)، لا قبل لسباح ماهر بها منفرداً، ولا سبيل للنجاة منها إلا بالاستعانة الكاملة بالله تعالى، والاستجابة لأمره بالاستعداد الكامل لمواجهة الطوفان، ليكون الطوفان فرصة وليس نكبة، انطلاقاً وليس اندثاراً، حياة وليس موتاً.
المنهجية القرآنية واستثمار الفرصة السانحة
تكمن الفرصة الذهبية الآن في أن نُسلم بداية بأن طوفاناً قادماً أياً كان نوعه، وأياً كان خطره، سواء كان محنة قاسمة، أو منحة كاشفة، إلا أنه لا سبيل لنا إلا الاستعداد بقدر الاستطاعة.
متى يكون الاستعداد؟ وكيف؟
الواجب أن نبدأ اليوم قبل الغد، والليلة قبل طلوع الفجر، يجب أن نسارع بالتنادي للمساهمة في التخطيط المحكم كيف نصنع سفينة تبحر فتتصدى لأمواج الانحراف العاتية، وتيارات الانجراف الباغية، وتعلو عليها بإذن ربها.
الآن يجب علينا أن نستمع للنداء: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) (هود: 37)، فهو نداءٌ إلهي يُشرق بالطمأنينة ويزهر باليقين، إنها دعوة للامتثال الكامل تحت عناية الله ورعايته، حيث تتكامل الأيدي البشرية مع الوحي السماوي، ليخرج العمل متقنًا في شكله، عظيمًا في غايته، بأعين الله تُحاط كل خطوة بحفظٍ دقيق، وبوحيه تُرشد العقول والقلوب إلى الصواب.
هو تكليفٌ ليس فيه عشوائية ولا ارتجال، بل هو بناءٌ ينضج بنور الإلهام، وسفينةٌ تبحر على درب الطاعة، إنها رسالةٌ خالدة لكل إنسان؛ أن كل عملٍ تحت عين الله يُبارك، وكل طاعةٍ تستمد نورها من وحيه لا تُهزم.
الأمة تحتاج إلى سفينة محكمة الصنع، متينة البناء، قوية الأداء، تحمل رجالاً أشداء، تنطلق على قاعدة (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) (هود: 41).
منهجية صناعة السفينة لمواجهة الطغيان لم تكن حالة خاصة بنوح عليه السلام فحسب، بل هي منهجية نجاة على مدار العصور والأزمنة، هي نموذج حيّ لكيفية مواجهة التحديات الكبرى عبر الإيمان، والصبر، والعمل الجاد، والجماعية.
«اصنع الفلك» نداء ممتد لكل مؤمن في كل عصر، يُطلب منه أن يكون صانعًا لسفينة النجاة لقومه ومجتمعه، إنها دعوة إلهية لتحمل المسؤولية في مواجهة الفتن والطغيان، حيث يُكلف كل مؤمن ببناء سفينته الخاصة تحت عين الله ووفق هديه، لينقذ بها من حوله من طوفان الجهل والفساد، هذا التكليف يتجدد في كل زمان، ليذكرنا أن النجاة ليست فردية، بل هي مهمة جماعية، قوامها الإخلاص والعمل الدؤوب.
صناعة السفينة في قصة نوح عليه السلام تمثل رمزًا عميقًا لبناء النفس وإعدادها للسير إلى الله، ففي عالم مليء بالأزمات والفتن، تحتاج كل أمة ومجتمع وفرد إلى بناء «سفينته» الخاصة، التي تحمله إلى بر الأمان، فلنتعلم من نوح عليه السلام كيف نبني، وكيف نصبر، وكيف نعمل، وكيف نتوكل على الله في كل خطوة، لعلنا نكون من الناجين
السفينة ليست مجرد وسيلة مادية، بل هي مشروع روحي يتطلب جهدًا، وصبرًا، واعتمادًا على الله، هذا البناء يجسد منهجًا للتصالح مع النفس والعمل الدؤوب على تهذيبها، بما يجعل الإنسان قادرًا على النجاة من بحر الفتن والوصول إلى شاطئ القرب الإلهي.
قد جعل الله نجاة نوح ومن آمن معه بصناعة السفينة، وبإتقان علم صناعة السفن وقوانينها في البحار، وكان لنوح عليه السلام والذين معه همة وعزيمة في استيعاب العلوم الربانية التي ساعدتهم على إنتاج هذا الصرح الحضاري الكبير.
وسفينتنا تحتاج إلى بناءٍ واعٍ، ورؤية واضحة، وإيمان عميق، وصبر على التحديات.. والنجاة ليست وليدة المصادفة، بل هي ثمرة الإيمان والعمل الجاد، قصة سفينة نوح تقدم درسًا خالدًا في كيفية بناء السفينة التي تنجي الإنسان من طوفان الدنيا وأهوائها، المؤهلات تبدأ من قلب الإنسان بإيمانه، ثم تمتد إلى جوارحه بالعمل الصالح، وتنتهي بالتوكل التام على الله.
من قائد السفينة إذاً؟
أنا قائد السفينة وربانها، وأنت كذلك قائدها وقيمها، وهي كذلك قائدتها وحافظتها، وهم كذلك قادتها وجنودها، أهل الفكر قيادة، وأهل العلم ريادة، وأهل المال عطاء، وأهل القوة بناء، وأهل الحرفة إبداع، وأهل الإدراك تخطيط، وأهل التربية إعداد، وأهل الفنون إلهام، وأهل الخلوات ابتهال ودعاء، وأهل الإعلام تصحيح للأفكار ومقاومة للاستهزاء، فلم تعد هناك نبوة، ولم يعد هناك الفرد الخارق الذي يمتلك كل الإمكانات، ويحوز كل الكمالات، بل هناك مؤسسات جماعية تشاورية تدير حركة الدول والمنظمات والتكتلات، ولم تعد فكرة القائد الملهم المتفرد قائمة، كما أن الأمة لم يكن لها أبدًا في أي حالة من حالاتها أن تجلس قابعة تتطلع إلى القائد المخلص، فليس هذا دأبها، ولا تلك مهمتها، إن مهمتها أن تتحرك وتبني وتنطلق، وسوف يسخر الله لها في كل مرحلة ما يناسبها من قيادة حكيمة وإدارة فاعلة.
ولكن هناك مواصفات لازمة لا بد أن تتوفر فيمن أراد أن يشارك في إعداد السفينة أو اللحاق بأهلها فينال شرف صحبتهم.
أولها: أن يكون صنع السفينة (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)؛ أي أن تُشعل جذوة الإخلاص في أعماق العمل، فلا يمتزج بشوائب الرياء، ولا تُثقله قيود المصالح الضيقة أو الأهواء الحزبية، بمعنى أن يُرفع البناء على أساسٍ من النقاء، غايته الله وحده، ومقصده رضاه لا غير، إنها سفينةٌ تولد من يقين القلوب وتبحر بنور الإيمان، فتسمو فوق أمواج الفتن وتعلو على رياح الأطماع.
بهذا الإخلاص تتحول الجهود إلى عبادة، ويصبح كل مسمارٍ يُدق وكل لوحٍ يُثبت شهادةً لصدق النية، مجسدًا قول الله تعالى: (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا).
فلا تكن صناعة السفينة مجرد انتصار لحزب سياسي، أو لتوجه أيديولوجي، أو لتيار فكري، أو لأي لون من ألوان الطيف التي غطت كثيرًا من الحقائق، فليكن الله غاية القصد حقًا، وكفى بالله وكيلاً.
فمن أراد أن يشارك في صناعة السفينة، فليسمع النداء، وليتأهب للاصطفاء وليتابع معنا مؤهلات الاستعمال.