تعد تجربة الأمومة من أعمق التجارب الروحية والنفسية والجسدية التي تمر بها المرأة، رحلة تبدأ منذ لحظة الحمل وتمتد طوال حياة الأم مع أبنائها، وهي ليست مجرد مسؤولية بيولوجية أو اجتماعية كما يظنها البعض، بل رحلة روحية مليئة بالتضحيات والتحديات التي تعزز من الإيمان في قلوب الأمهات وتدفعهم لتزكية نفوسهم، وتنمية الذات وتطوير القدرات الشخصية، وفي هذا المقال نتناول أثر تجربة الأمومة على تزكية النفس وتعميق الإيمان.
مسؤولية الأمومة
عظَّم الإسلام دور الأم، وبيَّن أنها منبع للبر والرحمة والعطاء لمن حولها، وأنها مسؤولة يوم القيامة عما استرعاها الله فيهم، كما جاء في الحديث النبوي، عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا» (رواه البخاري)، ولكي تقوم المرأة بهذا الدور تجد نفسها مدفوعة ضرورة إلى جملة من الأخلاق التي تزكي النفس كما سيأتي.
فطرية الأمومة
تبدأ الأمومة من تلك اللحظة الساحرة لاكتشاف الحمل، ثم متابعة تطور الجنين داخل الرحم، حيث تستشعر الأم عظمة الخالق وقدرته على خلق حياة أخرى داخل جسدها الضعيف، وهذا الضعف الذي يزداد مع ثقل الحمل، يستوجب التوجه إلى الله بالدعاء، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف: 189).
إن الأمومة تحث الأم ضرورة على أن تكون شاكرة لله راغبة في إرضائه على هذه النعمة العظيمة التي لا تقدر بثمن، وكذلك فهي فرصة لزيادة الأعمال الصالحة، بما تؤديه الأم من واجبات تجاه أطفالها فيما بعد، كتقديم الطعام، والتربية، والعمل في المنزل، وغيرها.
الإخلاص لله في عمل التربية
صدق النية والإخلاص لله الزاد القوي لكل أُم كي تكمل مسيرتها مع أبنائها، فحينما تشعر بالإرهاق الحاصل لا محالة أو عدم تقدير دورها الكبير ممن قد يكونون حولها، يكفيها أن تتعاهد نيتها، وأن تحتسب أن الله تعالى يرى بذلها لأبنائها؛ فلا تستصغر مما تفعل شيئاً، وتكمل بذلك طريقها الذي بدأته دون عنت.
الصبر والحلم
فمع ضغوط الحياة، تمر الأم بمشاعر كثيرة ومختلطة، كالغضب والتوتر والقلق والشعور بالذنب، وتجاهد نفسها لضبط مشاعرها، متسائلة: كيف تمتلك صبراً لكل تلك المهام؟! فتجد نفسها دائماً في حاجة للتدرب على خلق الصبر والحلم، حتى تستمر في توجيه الأطفال، وإجابة أسئلتهم المكررة، والرفق بهم وقت الغضب، فالتربية عملية مستمرة تحتاج إلى متابعة ومداومة ومجهود كبير لمراقبة الأطفال وحفظ سلامتهم، فللأم أن تكتسب خلق الحلم والصبر بمجاهدة النفس وكثرة الاستغفار وضبط الانفعالات بتوجيهات القرآن والسُّنة، فإن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم.
مراقبة النفس
على الأم أن تدرك أن أولادها مرآة لها، فتحاول تصحيح أخطائها ومراقبة عاداتها، فالفعل في تربية الأبناء أقوى من الكلمات، وقد حذر الإسلام من القول الذي لا يصدقه العمل، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف).
وفي التربية تحديدًا ينبغي أن يبدأ المربي بنفسه قبل أهله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، فالمربي يزرع في نفسه أولًا ما يريد غرسه في أولاده، فالأم هي القدوة الأولى في حياة الطفل، وهي المصدر الأول في غرس القيم والمبادئ الدينية، من خلال سلوكها اليومي، فعلى الأم أن تكون نموذجاً يحتذي به طفلها، وذلك في كل شيء، حتى في تعبيرات الوجه، وطريقة الحديث، وتعاملها مع الآخرين.
الإيثار
التضحية هي إحدى أعظم وسائل تزكية النفس، فالأم تضع احتياجات طفلها فوق احتياجاتها الخاصة، ورغم أن ثواب الإيثار عظيم، فإن هذا السلوك يعزز من قدرة الأم على التحكم في رغباتها النفسية، ويجعلها أكثر قوة في السيطرة على أهوائها وفقًا لما تقتضيه المصالح سواء لنفسها أو لزوجها وأطفالها، ويكسبها ذلك سموًا روحيًا رائقًا، فتشعر بذلك أن قيمة حياتها متجاوزة لنفسها ومتعدية إلى غيرها بفضل ما تبذله لهم.
توجيه العاطفة
من أهم منح الأمومة للمرأة، أنها تعيد الأم إلى فطرتها التي جبلها الله تعالى عليها، حيث خص الله النساء بحس عاطفي ورابطة طبيعية مع أطفالهن، وهذا الارتباط يبدأ مبكرًا منذ فترة الحمل والولادة، حيث تشعر الأم بمسؤوليتها تجاه هذه الروح الجديدة التي تحملها، وتزداد في ذلك قوة مع كل خطوة في هذه الرحلة مهما كبر الأبناء، فتقوم بتقديم الحب والرعاية بشكل لا يمكن وصفه إلا بأنه أمر غريزي متجاوز للنفعية المادية.
إن الأسرة أساس المجتمع الإسلامي، ويولي الإسلام الأم أهمية خاصة في تربية الأبناء وتعليمهم محاسن الأخلاق، ويؤكد كذلك حقوق الوالدين، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفَصَالهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (لقمان: 14)، وخصوصًا حق الأم، فقد جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (رواه البخاري، ومسلم)، وهذا الحق في ذاته مستوجب لتزكية الأم نفسها فيما تبذل حتى تستحق هذه المنزلة.