القرآن الكريم يحوي أكثر من ستة آلاف آية قرآنية، تخاطبنا أن نتحرك بها في الكون بأقوالنا وأفعالنا
مجموعة من الفتيات تعاهدن على تغيير أخلاقهن، ونمط حياتهن؛ باتباع وتطبيق ما جاء في كتاب الله تعالى، وسُنة رسوله “صلى الله عليه وسلم”؛ لذلك فإنهن التحقن بدورة من دورات التحرك بالقرآن والسُّنة، بعد أن علمن أن هذه الدورة تقوم بالشرح والتعليم، والتدريب العملي، ثم متابعة التطبيق بعد ذلك.
في بداية الدورة حدثتهن معلمتهن قائلة: القرآن الكريم يحوي أكثر من ستة آلاف آية قرآنية، تخاطبنا أن نتحرك بها في الكون بأقوالنا وأفعالنا، وكذلك السُّنة النبوية، كم من حديث يود أن نصاحبه عن قرب، ليتفاعل مع المجتمع من خلالنا، وأخذت المعلمة تحثهن على التفاعل مع الآيات والأحاديث، ومحاولة تطبيقها والامتثال لها، بدءاً بالآيات والأحاديث التي لها صلة مباشرة بحياتنا اليومية ومحيط أسرنا وأقاربنا ومعارفنا.
شيئاً فشيئاً بدأ التفاعل مع الآيات والأحاديث، وبدأن يشعرن بحدوث التغيير، وأخذن يروين تجاربهن في حصص الدروس، ونأخذ مثالاً من هذه التجارب ما قصته إحدى الدارسات؛ إذ قالت والإحساس بالسعادة يطغى على صوتها: إن منزلنا كان قطعة من العذاب؛ بسبب خلاف أبي مع أخي، وينتهي حوارهما دوماً بأصوات مرتفعة ومشاحنات، وينهي أبي دوماً هذه المشاحنة بترديد: «حسبي الله ونعم الوكيل فيك»، بل إنه كلما جاء سمع والدي مجرد اسم أخي يردد: «حسبي الله ونعم الوكيل».
تضيف الدارسة: أردت التحرك بما تعلمت لنشر الأمان والهدوء والسكينة على منزلنا العامر، فاقتربت من والدي بحب وقلت له: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى:40)، قال: ألا ترين أفعال أخيك؟ فقلت له: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173) دعاء عظيم جداً، ولكن مفهومه الشائع عند الناس، وبالقطع عند أخي أنه دعاء عليه، فيزداد في عناده، لذلك فإنني أقترح يا أبي لو أبدلتها بقولك: «فمن عفا وأصلح فأجره على الله»، أتصور أبتاه أن وقْعها سيكون مختلفاً كثيراً، لم يردّ أبي وكذلك لم يرفض كلامي؛ فحمدت الله على ذلك وأخذت أرقب الأحداث من بعيد.
غمرتني الدهشة أنه عند أول احتكاك بين والدي وأخي، أن الوالد نظر لأخي مردداً: «فأجره على الله»، وأنا أفهم ما يعنيه، وانتهى الموقف بسلام، وعندما تكرر نفس الأمر، بدأ عناد أخي يتحطم رويداً رويداً، وأخيراً نزل على بيتنا ستار من الود والحب، كنا في لهفة وشوق لحدوثه.
كانت الدارسات سعيدات ببواكير تجاربهن العملية، والمعلمة تشجع وتقوم بالتعليق والتأصيل، إلا أنه كان هناك أمر يحيك في صدور الدارسات عبَّرت عنه إحداهن عندما نظرت بحيرة وطلبت الكلمة وقالت: ليست كل آيات القرآن يمكننا أن نتحرك بها، فهناك آيات الأحكام والفرائض مثلاً، مثل قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”183″} (البقرة).
قالت المعلمة: لعلكن لاحظتن أن الآية تخاطب المؤمنين بأن الصيام فرض عليهم كما كان قد فرض على من قبلهم؛ لعلهم بذلك يصلوا إلى تقوى الله تعالى.
وهنا نظرت المعلمة إلى المتكلمة قائلة لها: هل حضرت دروساً عن التقوى من قبل؟
قالت الفتاة: نعم، ولكن لا أكذبك القول، أسمع درساً عن التقوى وقبل رجوعي لمنزلي أكون قد نسيت ما قيل! وهكذا أغلب الدروس النظرية التي حضرتها، لا يثبت في ذاكرتي منها إلا القليل مما سمعت، بالرغم من أن بعض هذه الدروس أكون مستمتعة بها أثناء الاستماع إليها، تبسمت المعلمة، وسألت الحاضرات نفس السؤال، فكانت إجابات متفرقة هنا وهناك لا تخرج عما قالته الفتاة.
عندها طلبت المعلمة من كل واحدة منهن جميعاً أن تكتب على جهاز المحمول الخاص بها ضمن آلية «البحث» عبارة «ومن يتقِ الله»، وقالت لهن: ليتكن تذكرن لي ما يظهر بشاشاتكن، وبدأت المشاركة، وتنوعت الأصوات، وكأنه صوت واحد في المضمون والهدف:
{$وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} (الطلاق).
فعلقت المعلمة: من منا لا يحتاج إلى تيسير أموره؟
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} (الطلاق).
قالت: وتكفير ذنوب وتعظيم أجر لنلحق بالسابقين أي فضل هذا من رب كريم.
{$وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق).
سبحان الله العظيم، ليس فقط يجعل لنا المخرج، ولكن معه الرزق أيضاً.
وإذا ما كررنا هذا التدريب ووضعنا ضمن آلية «البحث» عبارة «تتقوا» لكان مما يظهر أمامنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال:29).
نظرت المعلمة للحاضرات قائلة: كم نحن في شقاء عندما يختلط الحق بالباطل، ولا يستطيع الفرد التفريق بينهما، وكم هو رائع أن يفرق الله لنا الأمرين؛ فنرى الحق حقاً، وندعو المولى حينها أن يرزقنا اتباعه، فننجو على شاطئ الرحمة هذا، ونحن نرى بأم العين الحروب والصراعات، وكل يدعي أن الحق معه، وكل فريق له أنصاره، وليس هذا فقط، بل مع تكفير سيئات وغفران ذنوب.
{$وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ”179″} (آل عمران)، {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ”36″} (محمد).
{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ>186<} (آل عمران) {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا “128”} (النساء) {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا”129″} (النساء).
نظرت المعلمة للحضور قائلة: ألا نرى في هذه الآيات أن التقوى كانت دائماً حاضرة ومطلوبة، حتى مع وجود الإيمان أو الصبر أو الإحسان أو الإصلاح؟ إن الصيام من وسائل التقوى العملية، يهيئ النفس لها ويصل به إليها، وهل هناك أعظم وأجمل من أن يكون الله كافيك، وأمورك ميسرة، ورزقك موفوراً، مع غفران وتكفير للذنوب، وتعظيم للأجور، وارتقاء إلى عزائم الأمور بعلم الكريم الخبير البصير؟
كل هذا الخير يسعى لتحقيقه الصيام، فإذا امتلأت النفس بهذه المعاني وذاقتها؛ سهل عليها أن تبادر إلى صيام التطوع بل وتستكثر منه، وكلما وسوس لها الشيطان أن الحر شديد، وأن العطش غير محتمل، وأن اليوم طويل، وأن المهام ثقال، وأن… وأن.. وأن؛ برزت لها الآية الكريمة تذكرها بالخير العظيم الذي ينتظرها، وأن الصبر سمة أصحاب العزائم، فتقوى عزيمتها، وتواصل مسيرة الخير والطاعة، أما إذا حل رمضان فإن النفس تنظر إلى الآية الكريمة وهي محلقة مزدانة، تبشرها بأجر صيام رمضان، وتدعوها لأن تفخر بأنها الآن في ركب المؤمنين والذين سبقوهم، وأنها في طريقها للوصول إلى تقوى الله عز وجل، فتمضي ناشطة لصيام رمضان وقيامه وفعل الخيرات فيه، هذا نموذج من نماذج التحرك العملي بهذه الآية الكريمة.
أثناء حديث المعلمة، أذَّن المؤذن لصلاة العشاء، فصمتت تماماً تردد الأذان، ومن في القاعة بدأن في الحوار والنقاش والسلامات والتحيات، وهي تنظر صامتة، وبعد أن رددت دعاء ما بعد الأذان قالت: وهذا الخير العظيم الذي تركتموه بثرثرتكن، أيضاً من أعمال التقوىوَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} (الحج:32)، ردّدن في نفَسٍ واحد: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”32″} (الحج)، قالت: سبحان الله، فلم لا تطبقن؟ أليس الأذان يوصينا “صلى الله عليه وسلم” بترديده مع المؤذن، ومن يردده يفُز بعطايا من يتقي الله، من تيسير، ومغفرة، ورزق، وتفريج كربات، وكفاية من الله الملك، كذلك هناك دعوة ما بين الأذان والإقامة لا ترد، لمن فطن والتحف بالتقوى.. التقوى العملية التطبيقية.
كانت الدارسات يسمعنها وكأن على رؤوسهن الطير، وكما قالت واحدة منهن: كنا كأننا نسمع هذه الكلمات للمرة الأولى، فحبب هذا التطبيق العملي الصيام إلى قلوبنا، وكذلك ترديد الأذان.
في اللقاء التالي كانت أغلب الحاضرات صائمات، وما علا صوت المؤذن منادياً للصلاة، إلا والقاعة قد ارتدت ثوباً من الصمت المغلف بالخشوع، يرددن الأذان حتى نهايته، فما أجمل هذا الدين العظيم!