بما الإجابة: نعم! فيجب ألا نخاف مما يمكن أن يقع في المستقبل، مع شعورنا العميق بالحزن، وهي مسألة نفسية لا علاقة لها بالسياسة.. فالعراق تاريخياً إلى عام 1921م الذي أنشئت فيه مملكة العراق
ربما الإجابة: نعم! فيجب ألا نخاف مما يمكن أن يقع في المستقبل، مع شعورنا العميق بالحزن، وهي مسألة نفسية لا علاقة لها بالسياسة.. فالعراق تاريخياً إلى عام 1921م الذي أنشئت فيه مملكة العراق، من قبل الإنجليز وبعد ربط ولايات الموصل وبغداد والبصرة التابعة للإمبراطورية العثمانية التي خسرت الحرب العالمية الأولى، كان اسماً لمنطقة غير محددة المعالم، ولم يكن اسماً لدولة، وهذه المنطقة هي جزء من بلاد ما بين الرافدين الممتدة من الحوض المتكون من دجلة والفرات في جنوب تركيا الحالية إلى الخليج العربي، فالموصل (نينوى) هي أعرق هذه المدن، ويمتد تاريخها إلى أكثر من ألف عام قبل الميلاد، وكانت من أعظم مدن الدنيا عاصمة للأشوريين وهم أقوام سامية، بينما البصرة مدينة عربية أسسها مع الكوفة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 14هـ، وأما بغداد فقد بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور حوالي 145هـ.
والعراق تاريخياً ومناطقياً ينقسم إلى قسمين رئيسين؛ العراق العربي والذي يمتد تقريباً من جنوب سامراء الحالية إلى ساحل الخليج، والعراق العجمي والذي يشمل مناطق غرب إيران الحالية من حدود شيراز غرباً إلى الخليج جنوباً، وخلال هذه الفترة الطويلة شهدت هذه المنطقة دولاً وإمبراطوريات عديدة كالأموية والعباسية والعثمانية، وإمارات كثيرة كان من أهمها البويهية والسلجوقية والأتابكية والأيوبية.
ودولة العراق الحالية بحدودها الآنية أخذت هذا الشكل بعد الضم النهائي لولاية الموصل نهائياً، وبعد أن استوردوا لها ملكاً مهزوماً من سورية وأصله من الحجاز، ثم تكرست هذه الدولة بعد الاستفتاء الذي أجرته عصبة الأمم عام 1925م نزولاً عند رغبة الإنجليز، وكان استفتاءً مزوراً؛ طمعاً في نفط كركوك وعين زالة، وقد قال “ونستون تشرشل”، وزير المستعمرات البريطاني الأسبق: إن تأسيس هذه الدولة كان خطأ فاحشاً، حيث لم تهدأ ثورات الكرد ضد المستعمرين الجدد أبداً؛ مما حدا بالمستعمرين الإنجليز لرشهم بالغازات الكيماوية قبل “صدام” بستة عقود!
سقطت مملكة العراق عام 1958م تحت وطأة الصراع البريطاني- الأمريكي على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة، وبدأ عهد جمهوري لم يعرف الاستقرار والراحة، خصوصاً بعد استلام حزب البعث للحكم عام 1968م المعروف بسياساته الرعناء تحت غطاء قومي أجوف، وكانت الحروب البعثية أهم سمات المرحلة.
تزامن حكم البعث مع قيام الثورة الإيرانية الشيعية عام 1979م والتي لم تتردد باستحضار الماضي واستنساخه تحت رايات تصدير الثورة، ونشر دولة العدل الإلهي التي سيقيمها الولي الفقيه نيابة عن المهدي الغائب منذ عام 265هـ، حيث عملت الثورة على تكريس الشعارات الطائفية تحت غطاء إسلامي مزور سرعان ما انكشفت حقائقه للمسلمين.
تلقف الشيعة في العراق بمختلف انتماءاتهم القومية هذه الأفكار بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم تفجرت هذه المشاعر بشكل لم يسبق له مثيل تحت وطأة عوامل تاريخية ودينية خارج مسار الورقة بتشجيع إيراني لا غبار عليه، وتبخرت أحلام على الوردي في خمسينيات القرن الماضي عندما توقع موت الطائفية في العراق بعد وفاة الدين حسبما كان يعتقد ويحلم به، لتشهد الطائفية عرساً لم تشهده في تاريخها مطلقاً، بحيث لم يتردد رئيس الوزراء السابق “المالكي” (الحاضر الغائب) بوصف شخصيته أنه شيعي أولاً ثم عراقي ثم مسلم، في هذه الأجواء ظهرت شعارات طائفية أقل ما يقال عنها: إنها هزيلة ومضحكة مثل “يا لثارات الحسين”، و”أخيراً رجع الحق لأهله”، و”يا قائم آل محمد”، والقائم هنا هو المهدي المنتظر الذي سيقتل النواصب أعداء الشيعة والذي ظهر جيش باسمه، بينما الأدبيات الشيعية تقول: إن جيشه بعدد جيش أهل بدر؛ أي 317 فقط.
وهذه الأفكار كانت كافية لنسف كل الخلافات التاريخية والقومية والدينية التي جمعت أهل العراق الحديث، وهكذا دخل العراق من فكر القائد الضرورة إلى فكر المراجع التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وبهذا التهافت صار أهل السُّنة عموماً بغض النظر عن انتمائهم القومي موضع شك، وتم وصفهم بأنصار يزيد؛ وهو ما عبر عنه “المالكي” الراحل عندما لم يتردد ببيان أن الحرب هي بين يزيد، والحسين، وهي عقلية بائسة إلى أقصى الحدود جرَّت العراق إلى ما هو عليه الآن، وأعطت الكارت الأخضر لـ”داعش” وغيرها لتبرير أعمالها الإرهابية.
إن الهزيمة القاسية لما يسمى بالجيش العراقي أخيراً في الموصل وغيرها من المناطق على يد بضع مئات من الإرهابيين، ما كان ليحدث لو أن هذا الجيش كان يحمل عقيدة وطنية وهو مدجج بأحدث الأسلحة، ولو لم يكن قادته متهمين بإذلال أهل الموصل ونهبهم، وجنوده غارقين إلى آذانهم برفع الشعارات الطائفية وسب الصحابة إلى آخر تلك القائمة المتهافتة التي عفا عليها الدهر، وكأننا نعيش في القرون الوسطى، وهذا واقع يجب ألا نهرب منه أبداً بإلقاء سبب الهزائم على رؤوس الطوائف والقوميات الأخرى وعدم الاعتراف بالأخطاء القاتلة ومحاسبة المسؤولين عنها، لتصل المهزلة إلى أقصى من ذلك بمكافأة أبطال الهزائم بقطع أراضٍ مخصصة للنفع العام!
إن الهزائم القاسية تؤدي للتشرذم، ولقد علمنا التاريخ بأن الحدود السياسية ليست خطوطاً مقدسة خصوصاً عندما تتفاقم أسباب الخلاف الداخلي وتختفي مشاعر حسن النية بين الفرقاء، وتبلغ المهازل الطائفية الذروة، وفي التاريخ الحديث كان من مصلحة شعوب الاتحاد السوفييتي السابق أن يتفككوا وكذلك يوغوسلافيا والسودان، فإذا كانت الوحدة مطلوبة فإن هذه الغاية لا تنفع مع شعارات الاستقرار والطائفية، والتي تتكرس يوماً بعد يوم، حتى شملت النازحين ليتم تقسيمهم إلى نازحين قسراً ونازحين رغبة، ولا ندري كيف يترك المرء داره وأهله وماله رغبة منه وكأنه ذاهب لسفرة سياحية حتى لو كان يملك مال قارون، ولكن كيف سيكون الانقسام؟ لا ندري وربما من دفع بـ”داعش” إلى الموصل يوم 10/6/2014م عنده الخبر اليقين، خصوصاً بعدما صدرت أمهات الصحف الأجنبية وقتها بعناوين “نهاية الشرق الأوسط القديم”، و”نهاية العراق”.. إلخ، دعونا ننتظر ونرى فنحن لا نملك غير القلم والورقة والانتظار والخبر اليقين عند “داعش” ومن صنعها، ولله في خلقه شؤون.