إن المتأمل في نصوص القرآن الكريم والسُّنة المطهرة يلحظ مدى اهتمام الإسلام بالنشء، ومدى حرصه على توفير الرعاية السليمة له، لينشأ في بيئة معافاة من النقائص والشوائب الأخلاقية والسلوكية.. وهذا حق، فإن الأبناء هم قرّة عين الأولياء، وسواعد بناء الأوطان، فإذا صلح شأنهم كانوا عامل قوة وشارة سؤدد لأمتهم ومجتمعاتهم.
وإذا كانت عملية التنشئة السوية الصحيحة المتكاملة، تسهر على إنجازها عدّة جهات، فإن المربي أو المعلّم، يمثّل -بعد الوالدين- قطب الرحى فيها، فكم من عظيم أو عبقري أو مبدع، ظلّ طوال حياته يدين بالفضل فيما حققه من نجاح، لمعلّم معيّن أو لمجموعة من المربين، تركوا أثرهم وبصماتهم في صياغة شخصيته وتفوقه ونبوغه.
معالجة العوائق النفسية
وهذه القصّة الرائعة أنموذج حيّ يجسد مدى أثر المربي العبقري في الكشف عن أصحاب المواهب والنبوغ، ومعالجة العوائق النفسية والاجتماعية التي قد تحول لأسباب معيّنة دون ظهور تلك الخصائص البديعة.
وقفت إحدى المعلمات أمام تلاميذ الصف الخامس، في أول يوم تُستأنف فيه الدراسة، عقب نهاية عطلة فصل الشتاء، وألقت على مسامع التلاميذ جملةً لطيفةً تجاملهم بها، حيث نظرت لتلاميذها وقالت لهم: إنني أحبّكم جميعاً، فأنتم أبنائي وأنا مربيتكم، أحمل على عاتقي واجب رعايتكم وتعليمكم وتربيتكم، لكنها كانت تستثني في قرارة نفسها تلميذاً يجلس في الصف المقابل لمكتبها، يُدعى «تيدي ستودارد».
لقد راقبت السيدة «تومسون» الطفل «تيدي» خلال الفترة المنتهية من العام الدراسي، ولاحظت بأنه لا يلعب مع بقيّة الأطفال، وأن ملابسه دائماً أو غالباً ما تكون متّسخة، وأنه غالباً ما يظهر أنه بحاجة إلى حمّام، بالإضافة إلى أنه يبدو شخصاً غير مُبهجٍ لارتسام غلالة من الحزن على جبينه.. وقد بلغ الأمر أن السيدة «تومسون» كثيراً ما كانت تجد متعةً في تصحيح أوراقه بقلم أحمر عريض الخط، وتضع عليها علامةً خاصةً، وبعد ذلك تكتب عبارة «راسب» في أعلى تلك الورقة!
وفي المدرسة التي كانت تعمل فيها السيدة «تومسون» كان يُطلب من المعلمين مراجعة السجلات الدراسية السابقة لكلّ تلميذ، فكانت تضع سجلّ الدّرجات والملاحظات السابقة الخاص بالتلميذ «تيدي» في النهاية.. وفي إحدى المرات، بينما كانت تراجع ملفّه فوجئت بشيء ما أثار انتباهها!
لقد كتب معلّم «تيدي» في الصف الأول الابتدائي ما يلي: «تيدي.. طفل ذكي، ويتمتّع بروح مرحة، إنه يقوم بواجباته ويؤدي عمله بعناية واهتمام، وبطريقة منظمة، كما أنه يتمتع بدماثة الأخلاق»!
وكتب عنه معلمه في الصف الثاني ما يلي: «تيدي.. تلميذ نجيب ومحبوب لدى زملائه في الصف، لكنّه قلقٌ ومنزعجٌ بسبب إصابة والدته بمرضٍ عُضالٍ؛ مما جعل الحياة في المنزل تسودها المعاناة والمشقة»!
أما معلمه في الصف الثالث، فقد كتب عنه: «لقد كان لوفاة أمّه وقعٌ شديدٌ على نفسه، لقد حاول الاجتهاد وبذل أقصى ما يملك من جهود، غير أن والده لم يكن مهتماً، وإن الحياة في منزله باتت تؤثر عليه سلباً إنْ لم تُتخذ بعضُ الإجراءات والاستدراك على وضعه النفسي الصعب»!
بينما كتب عنه معلمه في الصف الرابع الكلمات التالية: «تيدي.. تلميذ منطوٍ على نفسه، ولا يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة، وليس لديه الكثير من الأصدقاء، وفي بعض الأحيان ينام أثناء الدرس»!
حقيقة المشكلة
هنا فقط أدركت السيدة «تومسون» حقيقة المشكلة، فشعرت بالخجل من نفسها، وأنّبها ضميرُها عمّا كان قد بدر منها، ولقد تأزّم موقفها أكثر عندما أحضر لها تلاميذُها هدايا عيد الميلاد ملفوفةً في أشرطة جميلة وورق برّاق، باستثناء «تيدي»، فقد كانت الهدية التي تقدّم بها لها في ذلك اليوم ملفوفةً بسماجةٍ وعدم انتظام، وفي ورقٍ داكن اللون غير مناسب للهدايا العادية، بلْهَ هدايا أعياد الميلاد، بل كان مأخوذاً من الأكياس الورقية التي توضع فيها الأغراض والمشتريات من البقالة.
وقد تألمت السيدة «تومسون» كثيراً وهي تفتح هدية «تيدي»، بينما انفجر بعضُ التلاميذ بالضحك عندما أخرجتْ معلمتهم من لفافة هديته عقداً مؤلفاً من ماساتٍ بسيطةٍ ناقصة الأحجار، وقارورةَ عطر ليس فيها إلّا الربع فحسب أو أقلّ قليلاً، لكن سرعان ما كفّ أولئك التلاميذ عن الضحك عندما عبّرت السيدة «تومسون» عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العقد، ثمّ سارعت إلى وضعه على عنقها، كما وضعت قطرات من العطر على معصمها.. أما «تيدي» فلم يذهب بعد الدراسة في ذلك اليوم إلى منزله في الوقت المعتاد، بل انتظر قليلاً من الوقت ليقابل السيدة «تومسون» وليقول لها وهو في حالة زهو وابتهاج مشوبة بشيء من الحزن والألم: «سيدتي، إن رائحتك اليوم مثل رائحة والدتي»!
التحفيز طريق التميز
عندما غادر التلاميذ فناء المدرسة، انفجرت أحاسيس السيدة «تومسون» فانخرطت في البكاء لمدة ساعة على الأقل؛ لأن «تيدي» أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته تستعملها، ولأنه وَجَدَ فيها رائحةَ أمّه الراحلة.. ومنذ تلك اللحظة قرّرت السيدة «تومسون» التوسّع في الدروس التي تقدّمها لتلاميذها لتشمل جميع المواد، كما أولتْ اهتماماً خاصاً بالتلميذ اليتيم «تيدي»، وحينما بدأت التركيز عليه لاحظت أن عقله بدأ يستعيدُ نشاطه، وكانت كلما شجّعته ازدادت استجابتُه أكثر، وبنهاية السنة الدراسية أصبح «تيدي» من أكثر التلاميذ تميّزاً في الفصل، وأكثرهم ذكاءً، وأصبح أحدَ التلاميذ المدللين عندها.
بعد مضيّ عام وجدت السيدة «تومسون» مذكّرةً داخل صندوق بريد بابها بتوقيع تلميذها «تيدي»، يقول لها فيها: «إنها أفضل معلّمة قابلها في حياته».
لكن بعد ذلك مضت ستُّ سنواتٍ دون أن تتلقى أيّ مذكّرة أخرى منه، وفي وقت لاحق كتب لها يخبرها بأنه أكمل المرحلة الثانوية وأحرز عن جدارة المرتبة الثالثة الممتازة في فصله، وأنها ما تزال تحتلّ لديه منزلة أفضل معلّمة قابلها في حياته.
وبعد انقضاء أربع سنوات على ذلك، تلقّت خطاباً آخر منه يقول لها فيه: «إن الأوضاع الدراسية أصبحت صعبةً ومعقّدة، وإنه مقيمٌ في الكلية لا يبرحها، وأنه سوف يتخرّج قريباً في الجامعة بدرجة الشرف الأولى، وأكّد لها كذلك في هذه الرسالة أنها أفضلُ وأحبّ معلمة عنده حتى الآن».
بعد أربع سنوات أخرى تلقت خطاباً آخر منه، وفي هذه المرة أوضح لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس قرّر أن يتقدّم قليلاً في الدراسة، وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحبّ معلمة عرفها طيلة مساره الدراسي، غير أن اسمه هذه المرّة -كما ورد في التوقيع- كان طويلاً بعض الشيء، إنه «دكتور تيدي ستودارد»!
لم تتوقف القصة عند هذا الحد، لقد جاءها خطابٌ آخر منه، في منتصف ربيع ذلك العام، يقول لها في طياته: «إنه قابل فتاةً أُعجب بأخلاقها وأفكارها، وإنه سوف يتزوجها، وكما سبق أن أخبرها بأنّ والده قد توفي قبل عامين، لذلك طلب منها أن تأتي لتجلس مكان والدته في حفل زواجه المرتقب.. وبطبيعة الحال فقد وافقت السيدة «تومسون» على طلبه دون تردد».
والعجيب في الأمر أنها عندما حضرت، كانت ترتدي العقد نفسه الذي أهداهُ لها «تيدي» في عيد الميلاد منذ سنوات طويلة، والذي كانت بعض أحجاره ناقصة، والأكثر من ذلك أنه تأكّد من تعطّرها بالعطر نفسه الذي ذكّره بأمّه في آخر عيد ميلاد!
قبل بداية الحفل احتضن كلٌّ منهما الآخر، وهمس «دكتور ستودارد» في أذن السيدة «تومسون» قائلاً لها: «أشكركِ سيدتي على أن جعلتني أشعر بأنني مهمٌ، وأنني يمكن أن أكون مبرزاً وناجحاً ومتميّزاً».
فردّت عليه السيدة «تومسون»، والدموع تملأ عينيها: «أنت مخطئ «تيدي».. لقد كنتَ أنتَ مَنْ علّمني كيف أكونُ معلّمةً متميّزةً، لم أكن أعرف كيف أبدع في التعليم، حتى قابلتك في ذلك الصف منذ سنوات طويلة، وتحديداً بعد أن عرفتُ قصتك».
ذلكم الشخص الذي صنعته تلك المعلمّة العبقرية، لم يكن سوى العالم الكبير «مستر تيدي ستودارد»، الطبيب الشهير، الذي لديه جناح باسم مركز «ستودارد» لعلاج السرطان في مستشفى «ميثود دست»، في «ديس مونتيس»، ولاية «إيوا» بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يُعدّ من أفضل مراكز العلاج ليس في الولاية المذكورة فقط، وإنما على مستوى الولايات المتحدة برمتها والعالم أجمع!
المربي الكفء
إن الحياة مليئة بالقصص والأحداث التي إنْ نحن تأملناها أفادتنا حكمةً واعتباراً، والعقلُ السليم لا ينخدعُ مطلقاً بالقشور عن اللباب، ولا بالمظهر عن المخبر، ولا بالشكل عن المضمون.. فينبغي على المربي الكفء ألا يتسرّع في إصدار الأحكام، فإن الأطفال أمامه نفوسٌ إنسانيةٌ موّارةٌ بالعواطف والمشاعر والأحاسيس والبراءة والصفاء، بل عليه أن يسبر أغوارها باقتدارٍ، وأن يكون ملماً بالأفكار ذات الصبغة النفسية، مطلعاً على أبرز العوامل التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في النفس البشرية.
إن الطفل لا يولد ناجحاً كما أنه لا يولد فاشلاً أو مجرماً أو منحرفاً، بل هناك ظروف وعوامل تحيطُ به وتؤثّر فيه سلباً أو إيجاباً، والمربي الكفء العبقري هو مَنْ يستطيع الكشف عن تلك العوامل، وتحييد آثارها إذا كانت سلبية، وإعادة ترميم الجانب النفسي أو المعنوي للطفل الذي كان واقعاً تحت تأثيرها؛ قصد المساهمة في بناء شخصيته والاتجاه بمواهبه نحو التميّز، أما المسارعة إلى تسجيل ملاحظة «راسب» أو «غير موهوب» أو ما شابه ذلك، دون محاولة بذل الجهد للكشف عن تأثيرات العوامل المحيطة بالطفل، فهو عمل لا يدلّ على أيّ تميّز، ودليل ذلك أنه لا يستعصي على أحد.