أ.د إبراهيم أبو محمد .. المفتى العام للقارة الأسترالية
“التطبيع” مصطلح كريه في نفوس المصريين؛ لأنه محمل بتاريخ من الكآبة، وتكاد تشم منه عند سماعه رائحة المذلة والهوان، وعندما كنا طلاباً في الجامعة كان مجرد ذكر المصطلح كفيلاً أن يجر على مَنْ ذكره كثيراً من المتاعب والاتهامات إذا تحدث عنه بشكل إيجابي؛ لأنه يثير غيرة المصريين على الوطن، وكانوا يغضبون على من يقوم به أو يدعو إليه؛ لأنه لا يحمل عندهم غير معنى واحد هو أن تضع يدك في يديْ عدوك التقليدي المعروف “إسرائيل”، وهذا يعني أنك تريد أن تكون العلاقات طبيعية وطيبة مع من قتل بعض أبنائك وبعض أو إخوتك وبعض أبناء بلدك، أو قتلهم جميعاً.
بعد معاهدة “كامب ديفيد” أنشأت وزارة الخارجية المصرية إدارة تحمل هذا الاسم “إدارة التطبيع”، وكان يرأسها لفترة من الوقت السفير طه الفرنواني، وقد ظلت هذه الإدارة تعاني الجفاف في العلاقات على كل المستويات، وكانت هي الإدارة الوحيدة التي يعيش كل مَنْ فيها حالة من الفراغ والملل؛ لأنها كانت في خصومة غير معلنة مع كل المصريين.
قضية تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” كانت موضع اهتمام من القيادة السياسية بمقتضى اتفاقية “كامب ديفيد”، لكنها كانت محل إجماع رفض المصريين؛ لأنها ببساطة تعني تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني الذي اغتصب الأرض وشرد الأهل وقتل أجيال المصريين في الزيتية وبحر البقر ورأس غارب ودفن الأسرى أحياء في رمال صحراء سيناء.
الزمن تغير وأضحى تطبيع العلاقات مع عدو من نوع آخر، إنه تطبيع علاقات المشاعر والوجدان مع لون الدم وصور القتلى في الشوارع ومظاهر القسوة في أشد صورها ألماً وحسرة وحزناً على وطن يأكل أبناءه.
التطبيع الآن بين كل أدوات الإدراك بداية من الإحساس ومروراً بالسمع والبصر والفؤاد على رؤية المآسي واللا أخلاق والفوضى ونزيف الدم يسيل في كل بلاد العروبة والإسلام دون محاسبة، وكأنها خطة تدرب المشاعر لتكون على إرهاف أقل لتتعود شيئاً فشيئاً على رؤية المجازر القادمة حتى يضمن الآخرون ردود أفعال محسوبة ومحتملة ومقدور على احتوائها.
التطبيع الآن يتم على قدم وساق لقطع أعناق كل العرب، لكنه يبدأ باليد والساق لتتم باقي العمليات في هدوء ودون صراخ أو عويل، وحتى لا يحدث سعي بشكوى أو توثيق لما يحدث بقلم وقرطاس تتناوله يد الشيطان المثقف لتسطر به سطور ذلها.
عمليات الذبح أو القنص أو القتل خنقاً بالغاز أو تجريف الجثث منظر كئيب يحدث كل يوم، إما في “داعش” أو لدى أقاربها وفي سجونهم ومعتقلاتهم لينتشي بلون الدم من يحكمون البلاد، ولتتعود عليه عيون الشعب يوماً بعد يوم.
ومن باب التعاون وعدم الاستئثار بالفضل كله؛ ولأن كلنا واحد، وآلامنا واحدة ومآسينا وكوارثنا واحدة، فلا فرق ولا مانع بين أن يكون القتل في مصر أو في سورية أو في ليبيا أو اليمن أو لبنان، المهم أن يحدث في منطقتنا، وأن يحظى به الأهلون دون سواهم، سواء في قاهرة المعز أو في عاصمة الرشيد إن كان العرب ما زالوا يذكرون شيئاً من تاريخهم.
ولا فرق في تطبيع المشاعر مع رؤية القتل الممنهج أن يتم بأيدينا نحن، أو يتطوع به أصدقاؤنا عبر السماوات المفتوحة عن طريق طائراتهم وقنوات فضائياتنا حتى لا نحرم من شرف المساهمة ولو بالكلمة أو نقل الصورة.
يبدو أن السادة الكبار أولياء أمورنا لا يرغبون في إعادة رسم خريطة المنطقة جغرافياً فقط، وإنما يريدون أيضاً رسم خريطة المشاعر والوجدان؛ بحيث يحددون لنا متى نشعر ونحس ومتى نكون كالجمادات لا حس لها ولا شعور فيها، فالتطبيع الذي ينفذ على قدم وساق يسوق كل العرب إلى مجموعة من المسالخ تنتظرهم، وأولها يبدأ بسلخ المشاعر حتى لا يتأثر الإنسان! لكن الجديد في عمليات التطبيع التي تتم اليوم أنه تطبيع ليس فقط مع رؤية الجريمة وأشلاء الجثث، وإنما مع الوقاحة والنذالة والخسة؛ ليؤكد دوره في التأثير شماتةً في موت الضحايا، وسخريةً بأهليهم، وتبريراً لما حدث بأن كل أمم الدنيا لا تعيش إلا بتضحيات كبيرة، وكأن التضحيات بالدم قاصرة فقط على أبناء الغلابة، وأن إله الخراب الذي يعبدونه لن يبقى على كرسيه إلا إذا تشبع مزاجه وانتشى بلون الدم وأشلاء الضحايا.
الشعوب الحية والحرة تحاسب حكامها لا على جرائم ارتكبوها، وإنما على تقصير في الأداء وبطء أو تعجل في اتخاذ القرار دون دراسة أو مشورة كافية.
ومنذ يومين فقط، خضع رئيس أستراليا “توني أبوت” لامتحان بالغ الشدة، حيث واجه تحدياً من حزبه على الزعامة كاد أن يعزله ويستبدله بغيره كرئيس للوزراء، ووقف الرجل أمام عدسات الكاميرات كالتلميذ الصغير ليقول لحزبه ولشعبه: “سأستمع، وأتعلم، وأتشاور، وأتلقى النصيحة من أي مواطن”.
الحاكم هنا خادم لشعبه، واهتماماته بما يرضيهم ويسعدهم، وشعوبنا العربية والإسلامية المسكينة علي مدى قرون تقدم لحكامها الطاعة والولاء، ولم تأخذ في مقابلها إلا الهوان والذل.
فهل كان عرب الجاهلية أرق شعوراً وأكثر فهماً وأعلى همة وأبعد نظراً من عرب الغترة والعقال والياقات المنشاة؟
هل كانت قلوبهم أقل قذارة من عرب اليوم؟
هل كانت رجولتهم أكثر نخوة وأعلى همة من عرب الغترة والعقال والياقات المنشاة؟
هل كان للعرض والشرف قداسة ومكانة ليست لدى عرب اليوم؟
ما الذي جرى حتى لا يتذكر عرب اليوم “حلف الفضول” الذي أنشأه أهل الجاهلية لينصروا به المظلوم وليقفوا فيه متكاتفين ومتعاونين ضد كل ظالم جهول؟
نظرية المندسين والعصابات المسلحة والقوى الخارجية والجماعات الإرهابية ثقافات وتفاهات وسخافات وشماعات خلقتها أنظمتهم وتشبع بها حكامنا في المنطقة العربية وحدها دون غيرها من مناطق العالم.
والحلول عندنا تبدأ بالرصاص الحي والضرب في المليان واختيار نظرية الأرض المحروقة، وحرق الأخضر واليابس، وأنا أو الفوضى وطوفان الدماء.
وهي هي نفس الحلول الجاهزة لكل الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة، حتى يخيل إليك أن مرض الاستبداد مرض عربي الأصل، جيناته تستوطن المنطقة العربية وحدها دون غيرها من كل مناطق العالم، وتنتقل بكثرة في السلالات من جيل إلى جيل عبر تعديلات بسيطة تجيد خداع الشعوب وتذويق الكلام وتسويق فكرة الخوف من أي تغيير جديد.
الأقنعة التي ترتديها بعض الأنظمة العربية قد انتزعت تماماً وظهر الوجه القبيح في سماجته وذله وبلادة شعوره وضياع كرامته.
والشعوب قد ملت من وجودهم وكرهت وجوههم وخرجت لتقول لهم بكل لسان: لا نريدكم، اغربوا بوجوهكم الكريهة عن حياتنا، حلوا عن عيوننا، لا نريد رؤيتكم، لكنهم لا يريدون أن يحلوا عن حياتنا ولو كان الثمن حرق الشعوب وتدمير البلاد والعباد وضياع الدنيا كلها!
التطبيع مع الدم والقتل يجرى كل يوم في بلاد العرب الأجاويد على قدم وساق، وآلة القتل التي تملكها أجهزة شريرة تعربد وهي لا تعرف غير العدوان والتجاوز ولم تحاسب في يوم من الأيام.
الغريب أن ألسنة العلماء والمثقفين والنخب أصابها الخرس فلم تنطق بكلام جاد ضد عمليات القتل الممنهج.
والأكثر غرابة أن استجابة الجماهير توقفت عند حدود الحزن والشعور بالكآبة، ولم يهبوا دفاعاً عما تبقى لهم من كرامة ويوقفوا آلة الذبح وعمليات القتل الجماعية التي يمارسها النظام بأجهزة أمنه وجيشه والشبيحة والبلطجية في المدن والقرى وحتى ملاعب الكرة؟
إلى هذا الحد يزعجهم صوت الشعوب حين تنادى بالحرية؟
إلى هذا الحد يؤرقهم أن تقول لهم الشعوب: كفوا عن السرقات والنهب واغربوا؟
نيرون لم يكن عربياً؛ ولذلك اكتفى بحريق روما دون أن يقتل شعبها، أما نيارين العرب (جمع “نيرون”) بوجوههم الكريهة فهم يريدون حرق الاثنين معاً، المدينة والشعب والوقوف على أطلالهما.
فمن سيطفئ الحريق يا ترى؟
ومن ذا الذي يكسر السكين ليوقف زحفها على أعناق الضحايا؟
(وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (محمد:4).