معجزة الإسلام الكبرى بقاؤه وصلاحيته لقيادة العالم رغم محاولات حثيثة، وكلما استُهدف الإسلام أو صار عرضة للهجمات والغارات تزايد إشراقه، وثبتت جدارته للبقاء؛ وبالتالي أخرج الإنسانية من الشقاوة والتعاسة إلى نور الهداية والسعادة، ومعلوم أن الله تعالى قد أودع في الإسلام ميزتين بارزتين؛ تعاليمه التوجيهية التي تحل قضايا ومشكلات كل عصر ومصر، وأخراهما: وجود رجال أكفاء، ينفون عن الإسلام تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فالإسلام دين الفطرة، ونظام الطبيعة، فكما أن الطبيعة لا يأخذها القدم والبلى، كذلك لا تؤثر في الإسلام تقلبات الزمن، فلا يتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يتبدل بتبدل الأمم والأمصار، فهو غالب في كلِّ زمان، وصالح للفتح والغلبة في كل مكان، قال الله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30}) (الروم).
شهد التاريخ الإسلامي موجات عارمة للهجوم على الإسلام، فكلما دبّر الأعداء مكايد شريرة أزهقها الله تعالى، وجعل الحق غالباً فرفرف رايته على الأرض، كان الإسلام متمثلاً في صورة آدم ونوح عليهما السلام تجاه الكفار والمشركين، وكان الإسلام أمام نمرود في صورة إبراهيم، وأراد نمرود أن يحرقه، وكان الإسلام أمام فرعون في صورة موسى عليه السلام، وأمام محكمة الروم في صورة عيسى عليه السلام، لكن (جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً {81}) (الإسراء).
إن رسولنا العظيم محمداً صلى الله عليه وسلم حينما بُعث في مكة المكرمة فلقي من سكانها عداوةً شديدةً، وجعل أهل مكة يؤذونه ويخططون له مخططات عدائية، لكن الله عصمه من كل سوء، وباءت محاولات الأعداء بالفشل الذريع، هذا يدل على أن الخلود والبقاء قد كتب لهذا الدين الحنيف الخالص من شوائب الشرك، هناك عدة مواقف في السيرة النبوية، تثبت خلود الإسلام على مدى التاريخ.
1- لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أدق لحظة وقت الهجرة، ففي المرة الأولى حينما كان يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته، واجتمع أمام بيته من كل قبيلة فتى شاب صاحب جلادة ونسب، وكانت السيوف مصلتةً، لكنه خرج ينثر التراب عليه؛ (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ {9}) (يس)، وفي الثانية حينما وصل الأعداء بحثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور، وكان الأمر حسب تعبير العلامة الندوي: “حبست الإنسانية أنفاسها، ووقفت خاشعة، فإما امتداد شقاء أو افتتاح سعادة، لكن الله حال بينهم وبين ذلك”؛ (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة:40).
2- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرةً إلى بني النضير، فرقُّوا في الكلام، ووعدوا بخير، لكن أخفوا في نفوسهم الغدر والاغتيال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إلى جدار، فناجى بعضهم بعضاً: فمن يعلو هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام وخرج إلى المدينة المنورة.
3- وفي غزوة خيبر، أهدت زينب بنت الحرث اليهودية امرأة سلام بن شكم شاة مشوية قد سمتها، وكان الذراع أحب اللحوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأكثرت السم فيه، فلما انتهش أخبر بالوحي بأنه مسموم، فترك الذراع، وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أردت قتلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما كان الله لِيُسلِّطَك عليَّ” (صحيح البخاري عن أبي هريرة).
كانت اللحظة حاسمة كذلك حينما فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، وانتشرت الردة في الأرض، وتآلب الأعداء على مركز الإسلام، فصان الله هذا الدين بعزيمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقولته البليغة: “أينقص الدين وأنا حي”، وقال علي بن المديني: “إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.
وقد شهد التاريخ الإسلامي الغارة الصليبية، كادت تقضي بنهاية هذا الدين، لكن الله قيض صلاح الدين الأيوبي فهزم الصليبيين وحرَّر البلدان الإسلامية وخاصة المسجد الأقصى، وكذلك كان الأمر متفاقماً في هجوم التتر، ذلك الجراد المنتشر، وكانت هزيمة التتر مستحيلةً، لكن الله – الذي يخرج الحي من الميت، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا – هزمهم شر هزيمة، وجعلهم حاملي لواء الإسلام، فقد تحقق منه: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
يتساءل كثير من الناس أن الله قد وعد بالنصر للإسلام، فالإسلام منهزم والمسلمون مخذولون؟ ولكن الأمر بالعكس، لا شك أن الإسلام غالب اليوم بفكرته ونظامه ودستوره، ورايته عالية في كل مكان، ولا تخلو لحظة من لحظات اليوم والليلة إلا ويرفع اسم الإسلام من المنابر والمناير، وأن مصباحه وضاء، وهذا دليل على أنه منزل من الله، وأما المسلمون فإن نصرهم مقرون بنصر دين الله عز وجل، وتطبيق شريعته على أرض الواقع، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7}) (محمد).
فديننا دين الغلبة والانتصار لا دين الهزيمة والانتكاس، يقول العلامة الندوي: “إن الإسلام دين حي، ورسالة خالدة، إنه حي كالحياة نفسها، وخالد كخلود الحقائق الطبيعية ونواميس الحياة، إنه تقدير العزيز العليم، وصنع الله الذي أتقن كل شيء، وهو السميع العليم”.