في عالم يموج بالمفاهيم المغلوطة، والمقولات المغالية، والمصطلحات التي لم يتم تحرير مضامينها، وبعد أن تجاوزت هذه المفاهيم والمقولات والمصطلحات ميدان الفكر إلى حيث فجّرت وتفجّرت عنفاً دموياً، عانى ويعاني منه ملايين العباد في كثير من البلاد، فمن الواجب المبادرة إلى تحديد المفاهيم وتحرير المقولات، وبيان المضامين العلمية الدقيقة للمصطلحات؛ وذلك لترشيد الفكر، ودعوة كل الفرقاء من كل الديانات والمذاهب والاتجاهات إلى كلمة سواء.
وهنا سنسعى في خلاصات موجزة، تحرر وتجلّي المضامين الدقيقة لأهم المصطلحات والمقولات التي سببت وتسبب هذه البلبلة الفكرية، التي أوقعت قطاعات من الناس في التطرف الفكري، والتي دفعت البعض إلى السقوط في مستنقع العنف الدموي.
وفي مقدمة هذه المصطلحات والمقولات، وعلى سبيل المثال:
1- مصطلح الحاكمية:
صحيح أننا نؤمن إيماناً عميقاً بالحاكمية الإلهية: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) (الأنعام:57)، لكن الفكر السطحي والمنحرف هو الذي يقيم تناقضاً بين حاكمية الله سبحانه وتعالى وحاكمية البشر المؤمنين بالحاكمية الإلهية، وفي القول بهذا التناقض المزعوم تجاهل لنظرية الاستخلاف الإلهي للإنسان كي يقيم هذه الأرض لله وحاكميته، لقد استخلف الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام ليحكم بين الناس بالحق، الذي هو حكم الله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص:26).
فحاكمية البشر الملتزمة بالشريعة الإلهية هي التجسيد لحاكمية الله، حتى لقد قال الإمام ابن حزم الأندلسي (384 – 456هـ/ 994 – 1064م)، «إن من حكم الله أن جعل الحكم لغير الله».
وهذا المنهاج الإلهي في الاستخلاف للإنسان عام في كل ميادين الفكر والحياة، فلله العزة جميعاً، وللإنسان الخليفة عزة هي من عزة الله وعزة رسوله صلى الله عليه وسلم، والشفاعة لله جميعاً، وللإنسان الخليفة شفاعة يأذن بها الله، والقوة لله جميعاً، والمؤمن القوي، والذي يعد القوة لحماية الحق، أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والمال مال الله، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى قد استخلف الإنسان في الحياة، والاستثمار والانتفاع والاستمتاع بالأموال والثروات، ومع ذلك فمن البشر من هم أولوا الأمر، طاعتهم في الحق من طاعة الله ورسوله، فلا تناقض إطلاقاً بين حاكمية الله وسيادة شريعته، وحكم الأمة التي هي مصدر السلطات.
2- مصطلحات الجاهلية والتكفير:
لقد انطلق الغلاة وأصحاب الفكر المنحرف من افتعال التناقض بين الحاكمية الإلهية والحاكمية البشرية، إلى الحكم بالجاهلية، ومن ثم بالكفر على المجتمعات التي ارتضت الديمقراطية أداة للحكم، متجاهلين أن هذه الديمقراطية كآليات لإدارة مؤسسات الدولة، فضلاً عن أنها البديل للاستبداد والدكتاتورية والطغيان، فإنها – كآليات – إنما تترجم عن الشورى الإسلامية، التي هي في جوهرها المشاركة في صنع القرار.
ولذلك، فإن الاستفادة من آليات الديمقراطية – مع نشأتها خارج عالم الإسلام – هي استلهام للحكمة التي هي ضالة المؤمن بصرف النظر عن أهلها وعن الفضاءات الفكرية والسياسية التي نشأت فيها.
ثم إن البلاد الإسلامية التي استلهمت هذه الديمقراطية تؤكد دساتيرها أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس والرئيس لتشريعاتها وقوانينها، ومن ثم فهي محمية من أي مفاهيم فلسفية مخالفة للشريعة الإسلامية عرفتها وتعرفها بعض المجتمعات الديمقراطية الغربية.
وإذا كانت الحاكمية البشرية بهذا المفهوم لا علاقة لها بالجاهلية التي يتحدث عنها أهل الغلو والتطرف، فإن هؤلاء الغلاة قد انحرفوا بمصطلح الجاهلية عن معناه اللغوي والاصطلاحي في حضارتنا الإسلامية، فالجاهلية في معناها الدقيق هي «زمن الفترة بين رسولين، عندما يكون الشرك هو محور الاعتقاد».
كما أن وجود شوائب جاهلية في المجتمعات الإسلامية لا يعني أنها جاهلية بتعميم وإطلاق، فلقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري الذي ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء، أصدق لهجة منه: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية»، فوجود شوائب جاهلية، يسعى دعاة الإصلاح إلى تنقية هذه المجتمعات منها، لا يعني جاهلية هذه المجتمعات بتعميم وإطلاق.
وبهذا التحرير لمصطلح الجاهلية ينتفي الحكم على مجتمعاتنا الإسلامية بأنها مجتمعات كافرة، تحكمها دول كافرة، إذ الإيمان – الذي هو نقيض الكفر – هو تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، وعلم حقيقة هذا التصديق القلبي خاص بالله سبحانه وتعالى الذي يعلم وحده خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
كما أن الخلافات والاختلافات التي تمايز بين فرقاء الناس في مجتمعاتنا الإسلامية إنما هي خلافات واختلافات في السياسة، وحول الدولة، والدولة والسياسة عند أهل السُّنة والجماعة – الذين يمثلون 90% من أمة الإسلام – هي من الفروع والفقهيات، وليست من العقائد، ومعايير الاختلاف في السياسات والفقهيات هي «الصواب، والخطأ» و«النفع والضرر»، وليست «الإيمان، والكفر» الذي هو وقف على الخلاف في أمهات الاعتقاد، ولذلك كانت التعددية في السياسات والفقهيات سُنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، بينما لا تعددية في أمهات الاعتقاد.
ولهذه الحقائق، التي جهلها أو تجاهلها الغلاة والمتطرفون، سادت حضارتنا في تراثنا وفي فقهنا مقولات التحذير من التكفير، فقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 – 505هـ/ 1058 – 1111م): «إن التكفير فيه خطر، والسكوت عنه لا خطر فيه، وإن الخطأ في أصل الإمامة وتعيّنها وشروطها وما يتعلق بها (أي في كل ميادين السياسة) لا يوجب شيء منه التكفير، وإن المبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل، والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه هو الاحتراز من التكفير ما وجد إليها سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة هو أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم».
ولقد جهل الذين سقطوا في مستنقع التكفير من الذين يتمسحون بشيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 728هـ/ 1263 – 1328م) ما قاله في التحذير من التكفير، وذلك مثل قوله: «والذي نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة»، «وأهل البدع هم الذين يبتدعون أقوالاً لا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه، أما أهل السُّنة، فإنهم لا يبتدعون قولاً، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفهم، مكفراً لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم يكفّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم، ومن يكفّر الأئمة المخالفين له فهو مستحق للعقوبة الغليظة التي تزجره وأمثاله عن تكفير المسلمين».
وفي العصر الحديث، قال الإمام محمد عبده (1266 – 1323هـ/ 1849 – 1905م): «لقد اشتهر بين المسلمين، وعُرف من قواعد دينهم، أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر».
3- مصطلح الخلافة:
لقد كانت الخلافة في التاريخ الإسلامي هي النظام السياسي الذي حقق أهدافاً ثلاثة:
أ- وحدة الأمة.
ب- تكامل – وليس وحدة – أقطار وأقاليم دار الإسلام.
جـ- تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية.
ولأن نُظم الحكم هي المؤسسات التي تجسّد السلطة في المجتمعات، فإن هذه النظم – ومنها نظام الخلافة – هي نُظم مدنية، تصنفها الأمة، وتطورها وتغيرها حتى تحقق المقاصد المبتغاة من ورائها، وهذه النظم تكون إسلامية بقدر تحقيقها لمقاصد الشريعة الإسلامية، ولذلك، فإن أي نظام سياسي يحقق وحدة الأمة، وتكامل أقطار دار الإسلام، وتطبيق الشريعة الإسلامية هو نظام إسلامي، حتى ولو لم نسمِّه خلافة، فالعبرة بالمقاصد والمعاني وليس بالأسماء والأشكال.
ولو أن الشرق الإسلامي قد أقام – كما فعل الغرب الأوروبي – سوقاً اقتصادية وتجارية مشتركة، واتحاداً جمركياً، ودفاعاً مشتركاً، ومؤسسات برلمانية مشتركة، وأمانة مشتركة للسياسات الخارجية، وقضاء لحقوق الإنسان؛ لأصبحت منظمة التعاون الإسلامي هي الشكل المعاصر للخلافة الإسلامية التاريخية.
ولقد كان هذا التصور مطروحاً في المدرسة الإصلاحية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، فرائد هذه المدرسة جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/ 1838-1897م)، هو الذي جمع بين شعار «مصر للمصريين» وشعار «الجامعة الإسلامية»، وكتب – هو والإمام محمد عبده – في «العروة الوثقى» سنة 1884م عن هذا التصور، فقال: «من أدرنة بتركيا إلى بيشاور بباكستان دول إسلامية متصلة الأراضي، متحدة العقيدة، يجمعهم القرآن، أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام، كما اتفق عليه سائر الأمم؟ فالاتفاق من أصول دينهم، وهو يحوّل عنهم هذه السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب، لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، وكل ذي مُلك على مُلكه، يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه، ألا إن هذا، بعد كونه أساساً لدينهم، تقضي به الضرورة، وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات».
فلا تناقض – إذن – بين وجود الدول الوطنية والقطرية والقومية، والتضامن والتكامل الذي يجمعها، أما الذين لا يتصورون الخلافة إلا حزباً يراها الحل السحري لكل المشكلات، أو «مليشيا» تبايع مجهولاً، وتريد فرضه على الأمة بالعنف الدموي، فهؤلاء إنما يعبثون فيما لا يجوز العبث فيه.