في كل عام يأتي شهر رمضان المبارك، حاملاً للمسلمين نسائم روحية رقيقة تجدد حياتهم، وتلفتهم إلى أفضل القيم وأنْفَسِها في السلوك والعبادة والعلاقات الإنسانية، كما تهديهم إلى منهج رائع في مواجهة قضايا الحياة والمجتمع وطرق التعامل مع الأحداث والأطراف الأخرى ممن يتعايشون معهم أو يجاورونهم أو يعاملونهم.
لقد بدأت البعثة المحمدية في رمضان، حيث تم تكليف النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الدين الحق الخاتم، ونزل القرآن الكريم هدى ونوراً وخيراً للمسلمين والبشرية، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) (البقرة:185).
لا يشغلنا كثيراً الآن اليوم أو الليلة التي نزل فيها تحديداً القرآن الكريم في شهر رمضان حسب الروايات المتعدد إيذاناً بإعلان النبوة، ولكن الذي يعنينا هو نزول القرآن في الشهر المبارك؛ ليكون هداية إلهية للبشرية كافة؛ مثلما نزلت الكتب السماوية الأخرى في الشهر ذاته؛ مما يعني أن رمضان له منزلة خاصة في الوحي ورسالات السماء.
شهر نزول القرآن
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».
في الشهر الذي أراد الله تعالى إكرام الأمة ببعثته صلى الله عليه وسلم، خرج النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى غار حراء الذي كان يتعبد فيه عادة على ملة أبيه إبراهيم، حيث جاءه جبريل بالوحي لأول مرة.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعد هناك نوم! وأن هنالك تكليفاً ثقيلاً، وجهاداً طويلاً، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام! (انظر: تفسير سورة المزمل في ظلال القرآن لسيد قطب، دار الشروق، القاهرة، 1423هـ/ 2003م، ج 6/3740).
إذاً هو منهج جديد يقوم على العمل والجهد الذي لا يتوقف ينبئ عنه الوحي ومتطلباته، لبناء أمة جديدة تختلف تماماً عن الأمة القائمة التي تعيش في ظل الجاهلية بمعطياتها الوثنية وصراعاتها القبلية، ومنهج القوة الغلاب، ومنطق السادة والعبيد، وقيم اللذة والمادة بلا ضوابط، والانتصار للرجل على حساب المرأة لدرجة وأد الأنثى وهي صغيرة.. إلخ.
تكليف ثقيل وجهاد طويل
هذا المنهج الجديد الذي يُعنى – كما وصفه سيد قطب – بالتكليف الثقيل والجهاد الطويل والصحو والكد، هو الذي صنع أمة التوحيد تواجه العالم بالدين الخاتم، وتبسط جناحيها على الشرق والغرب، وتقدم نمطاً إنسانياً للحياة يقوم على العدل والرحمة والتعاون ونبذ العنصرية والرفق بالضعفاء ومساعدة المحتاجين، فضلاً عن التماسك والوحدة والاستسلام لله وحده والخضوع له.
ومن المفارقات أن صيام رمضان لم يفرض مباشرة في أول أمر الدعوة، ولكن منهج التدرج وترتيب البناء الإسلامي جعله في السنة الثانية للهجرة، قال النووي يرحمه الله: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنين، لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة» اهـ (المجموع، 6/250).
وفكرة التدرج في التشريع والبناء الإسلاميين تعني الاستعداد للعمل والكد والجهاد لخدمة الدين والمجتمع، وهي فكرة حاضرة ومتضمنة في نزول الوحي «اقرأ»؛ مما يعني أن الأمة تحتاج إلى استعادة المنهج الإسلامي منذ البعثة المحمدية في شهر رمضان الذي يعني جمع الأنصار (المؤمنين بالدعوة) وتشرب تعاليم الدين الحنيف، واستخدام الإمكانات المتاحة لبناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع الإسلامي ثم الأمة الإسلامية في خطوات متتابعة، كل خطوة تضيف إلى سابقتها من خلال عمل لا يكل ولا يمل، حتى يصل إلى الغاية المنشودة، وهي الوجود الإسلامي على أرض الواقع عزيزاً كريماً.
تطبيقات عملية
وإذا كان شهر رمضان قد شهد بداية المبعث وأوائل مراحل البناء الروحي والنفسي والفكري لقيام مجتمع إسلامي قوي؛ فقد شهد التطبيقات العملية لحماية الدعوة والمسلمين، في مرحلة النبوة وما بعدها حتى يومنا هذا، ويذكر التاريخ كثيراً من الانتصارات التي حققها المسلمون في رمضان، وشهود أحداث عديدة، وميلاد شخصيات بارزة في تاريخ الإسلام، وتحولات عظمى، وراءها دروس وعبر تكشف منهج الإسلام في بناء الأمة والدفاع عنها وصيانتها من الانهيار والضياع، وكثيراً ما نتحدث مثلاً عن انتصارات المسلمين التي تمت في شهر رمضان المبارك ونستعذب استعادتها في الأسماع والقلوب كما جرى في بدر والخندق وفتح مكة والقادسية وفتح الأندلس وعين جالوت والعبور في العاشر من رمضان، بيد أن استعادة حديث الانتصارات ينبغي أن يعيدنا إلى التعرف على كيفية تحقيقها، أو العلم بالطرق التي أدت إليها في هذا الشهر الفضيل.
الاعتصام بالقيم العليا
شهر رمضان فيه حرمان من الطعام والشهوات منذ الفجر حتى غروب الشمس، وفيه تعويد للسان والنفس على الترفع عن فاحش القول وسوء السلوك، والاعتصام بالقيم العليا التي تزكي النفس وتجلو الروح وتهدي القلب إلى طاعة الله تعالى، إنه شهر مجاهدة بلا ريب على المستوى الشخصي أو الذاتي، فكيف يكون الأمر إذا أضيف إلى هذه المجاهدة الجهاد بالمال والسلاح ومواجهة الأعداء؟
لا ريب أن الأمر سيكون صعباً وشاقاً، ولكن المسلمين استطاعوا في رمضان أن يحققوا معادلة مجاهدة النفس وجهاد الأعداء.
في غزوة بدر (2هـ/ 623م) مثلاً كان هناك قتال مع مشركي قريش بعد خمسة عشر عاماً من نزول الوحي؛ انتهى بنصر الله للمسلمين على الأعداء نصراً مؤزراً، وهو نصر غيّر موازين القوى في الجزيرة العربية، حيث أصبح المسلمون قوة لا يستهان بها، ونقلت مصير الدعوة من حالة الاستضعاف إلى مرحلة الوجود الفاعل القوي، وكما يقولون بلغة أيامنا رقماً مهماً يصعب تجاهله على المستويين الداخلي (في الجزيرة العربية)، والخارجي (الفرس والروم)، بعد أن كانوا مجموعة من أتباع دين جديد جاؤوا إلى يثرب (المدينة المنورة) طلباً للحماية والإجارة.
تفاصيل غزوة «بدر» تقدم لنا جانباً مهماً في تفكير هؤلاء الأتباع إزاء نبيهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم، يتعلق بطريقة المواجهة مع جيش العدو الذي جاء من مكة مصحوباً بضجيج عالٍ، تؤكده قوة ضخمة تفوق قوة المسلمين عدداً (ثلاثة أضعاف) وعدة، ووسائط قتالية بلغة عصرنا (قوات العدو راكبة فوق الخيل التي تشبه المدرعات والدبابات الآن، والمسلمون مشاة بسيوف ورماح ونبال).
المشاورة والمحاورة
ثم هناك طريقة المواجهة المباشرة.. كيف؟
كانت غاية المسلمين الاستيلاء على قافلة قريش التجارية التي يقودها أبو سفيان وفاء لبعض حقوقهم، ولما أفلتت القافلة، وجاءت قريش بجيشها الضخم لتقضي على المسلمين في المدينة، وهنا هبّ المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن أنفسهم ودينهم.
ولكن المواجهة لم تكن عشوائية، فقد اجتمع المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت العبارة العنوان في اللقاء؛ هي قوله صلى الله عليه وسلم:
– «أشيروا عليَّ أيها الناس»!
أي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينفرد بالرأي في طبيعة المواجهة، ولا كيفيتها، ولكنه أصغى للصحابة رضوان الله عليهم واستمع لوجهات نظرهم، وطلب معرفة آرائهم واستطلع مدى وحدة المهاجرين والأنصار وطاقتهم الروحية والمادية للقتال.
هذا هو منهج «أشيروا عليَّ أيها الناس» من نبي يوحى إليه، يدخل الحرب باتفاق مع المقاتلين ومعرفة استعدادهم للقتال، وهو ما كشفت عنه الأحداث بعدئذ حين قال أبو بكر رضي الله عنه لابنه عبدالرحمن ولم يكن قد أسلم بعد، إنه لو قابله في المعركة لقتله، بل إن أبا عبيدة رضي الله عنه يقابل أباه في المعركة فيقتلَه! وها هو مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة يرى رجلاً من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز فيقول له: شدَّ وثاقه فإن أمَّه ذاتُ مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو – أي الأنصاري – أخي دونك!
التاريخ القريب
معركة «بدر» الرمضانية ترسي أسس الحركة في المجتمع المسلم وقت الحرب، وتعلمنا من خلال منهج «أشيروا عليَّ أيها الناس»، أن سياسة المجتمع الإسلامي لا تقوم إلا على أساس المشاورة والمحاورة، وليس على أساس الاستبداد والمصادرة، ويعلمنا التاريخ القريب أن الاستبداد أو الطغيان لا يحقق انتصاراً حقيقياً حتى لو صنع بعض الانتصارات في بدايات معاركه؛ لأن جنوده لا يملكون الروح الدافعة ولا العقيدة الراسخة، ولا التخطيط القائم على الشورى وتبادل الآراء وإقرار ما تتفق عليه الأغلبية.
في الحرب العالمية الثانية احتكر «أودلف هتلر»، زعيم ألمانيا؛ الرأي في حرب غير مشروعة، فحقق انتصارات هائلة في بداية المعارك واكتسح أوروبا وشمال أفريقية، ولكنه انهزم في النهاية، وفارق الدنيا منتحراً بالسم بعد أن بلغ عدد قتلى الحرب أكثر من ستين مليوناً، فضلاً عن الخراب والدمار في كل مكان شهد استخدام السلاح!
والشيء ذاته جرى مع حليفه في إيطاليا «بنيتو موسوليني» (الدوتش) الذي كان القسَم الإيطالي في عهده يقول: «باسم الله وإيطاليا أُقسم بأن أُنفذ أوامر الدوتش».
وكان النشيد الوطني الذي يردده الطلاب في طابور الصباح يقول: «أشكرك أيها الدوتش لأنك تمنحني ما يجعلني أنمو قوياً سليماً، يا رب احفظ الدوتش واجعله يحيا طويلاً من أجل إيطاليا والفاشية».
بعد الهزيمة المذلة عُلقت جثة «موسوليني» (الدوتش) في إحدى محطات تموين السيارات بعد إعدامه.
منهج «هتلر» وكذلك «موسوليني» لا يقره الإسلام؛ لأنه منهج فرعون الذي رد على الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه حين سأله: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟ بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) (غافر:29)، هذا الاستعلاء وتلك الغطرسة لا يقرهما الإسلام، الذي جعل للشورى سورة كاملة في القرآن الكريم يتعبد بها المسلمون في صلاتهم منذ البعثة حتى يوم الدين.
ولا ريب أن المنهج الإسلامي الذي وضعه الإسلام لبناء حركة المسلمين في مواجهة الحياة والأخطار، يحقق القدرة على النصر بإذنه تعالى، ويعصم المسلمين من الهزائم المذلة التي يتعرضون لها بسبب بعدهم عن هذا المنهج.. هل نذكّر باجتياح الصليبين للشام والتتار لدولة الخلافة، والقشتاليين لدولة الأندلس، والروس للقوقاز؟
رمضان المبارك يفيض بنفحاته وعطاياه ودروسه على المسلمين، ويا لها من بركات تتنزل على من يعتبر، ويسكن الإيمان قلبه، ويخلص الطاعة لله تعالى.