يتساءل كثيرون -بحزن وشوق- عن كيفية الاستمرار بعد شهر رمضان على نفس مستوى الأداء الروحاني الذي كانوا عليه أثناء رمضان، ويتهم بعضهم نفسه بعدم التوفيق في رمضان بناءً على انخفاض معدل الهمة الروحانية بعد رمضان، وهؤلاء برغم ما يعتري شكواهم من نبرات القلق والإحباط إلا أنني أهنئهم على هذا الشعور الوَجِل الذي أكرمهم الله به من خلال نفحات هذا الشهر المبارك، والذي يظهر في هذا الرباط الروحاني مع هذا الشهر الكريم، وفي لوم النفس ومحاسبتها، وأيضاً في البحث عن طرق المداومة على الطاعة، مما يدل على يقظة القلب، وتأثره برحمات الله. أما الآخرون الذين جاء رمضان ثم ذهب عنهم دون أن يكون لهم حظ من بركاته ونصيب من زاده، فأولئك هم الغافلون البائسون، والأكثر منهم بؤساً منْ غَرّته طاعته في رمضان، فأُعجب بطول قيامه وكثرة صدقته، وظن أنه قد أتى بما لم يأت به الأولون والآخرون، فأَوْعَزت له نفسه أن يستريح من تعب ما قام به، أو أن يفعل ما يشاء فقد غُفر له، فهؤلاء وإن كان ظاهر أمرهم فعلٌ وعملٌ إلا أنهم قد وقعوا في محبطات الأعمال ومهلكات النفوس. يقول ابن عطاء: “ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سبباً في الوصول. رب معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.” وحتى تهدأ قلوب العابدين الوجلة بعد شهر رمضان، وتطمئن في مسيرتها نحو الله، يجب أن يتذكروا الحقائق الآتية:
– خصّ الله شهر رمضان باستعدادات ربانية، ميّزت هذا الشهر الكريم ببركات ونفحات لم تتوفر في غيره من الأشهر، مثل: تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وزيادة أرزاق العباد فيه، ونزول الملائكة، وعتق الله للرقاب في كل ليلة… ولاشك أن ذلك مما يشحذ الهمم، ويولد الطاقات، ويدفع إلى التنافس في البر والتقوى، ولو أراد الله لعباده أن يكونوا على نفس مستوى الأداء الروحاني في غير رمضان لخصّ أيام العام بمثل ما في شهر رمضان، ولكن كان من حكمته سبحانه أنه فضّل بعض الأشهر على بعض كشهر رمضان، كما فضّل بعض الأيام على بعض كيوم عرفة، والعشر الأُول من ذي الحجة …وغيرها من محطات الإيمان والتقوى، وربطها بزيادة العمل الصالح ورفع مستوى أدائه من الناحية الروحانية.
– الصيام، والقيام، والصدقة، والذكر…وغيرها من الطاعات مشروعةٌ في شهر رمضان على هذا النحو الروحاني المكثف لتحقيق هدف التقوى، فالتقوى هي المقصد الذي يجب تحققه، والزاد الذي يجب الإكثار منه، وعلامة الإنجاز في ذلك أن يظل أثرها باقياً بعد الشهر الكريم، ضابطًا لجميع الحركات والأفعال والأقوال، يقول تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب”. فلا قيمة لصيام وقيام وطاعات يطول ليلها ونهارها دون تحقق مقاصدها في تقوى القلوب واستقامة السلوك. يقول تعالى: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم”.
– الجد والاجتهاد في العبادات والطاعات أثناء شهر رمضان من هَدْيه صلى الله عليه وسلم، الذي أراد أن يكون للأمة فيه شرف الاتباع؛ ولهذا أدّاها صلى الله عليه وسلم على نحوٍ ظاهرٍ ليُنقل عنه، وأكّدت الروايات أن فعله هذا لم يتكرر في غير رمضان، وذلك مثل اجتهاده في العشر الأواخر منه. جاء في الحديث: “كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها”. (رواه مسلم). وأيضاً: كرمه وكثرة إنفاقه في رمضان. جاء في الحديث: “كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”. (رواه مسلم). وفي هذا توجيه للأمة أن شرف بعض الأيام والشهور يقتضي فيها من العبادات وفعل الخيرات ما لا يكون في غيرها.
– العبادة في الإسلام أكبر من أن تحصر في شهر رمضان، ذلك أن منها ما هو فرض محدد في الزمان والمكان والهيئة، كالصلاة والصوم والحج… ومنها ما يشمل شؤون الحياة جميعاً بشرط موافقة أحكام الشريعة، وإخلاص النية لله، وعلى هذا فالعابدون لا ينقطعون عن معبودهم في جميع الأزمنة والأوقات والأحوال، ولكن تتنوع أشكال عباداتهم وحجم أدائها. ويأتي شهر رمضان في كل عام ليحيي هذا المعنى في قلوب المؤمنين، ويتأكد من سيرهم عليه طوال العام بما يؤهلهم لبلوغ فرصة أخرى من فرص الارتقاء والزيادة في رمضانات متعاقبة.
– صحة البدايات في العلاقة مع الله، وإخلاص النيات في التقرب إليه، ومجاهدة النفس في التزام الحلال والبعد عن الحرام، وتطبيق الإسلام في كل ميادين الحياة، دليل على قبول الله لك، وإذنه لك أن تكون في ذكره وطاعته، إذ لا توفيق لعبادته إلا إذا خصك برعايته، ولا اجتهاد بين يديه إلا إذا فتح لك باب التقرب إليه، ولا استمرار في مناداته ومناجاته، إلا إذا أذاقك حلاوة الإيمان وزودك بالأمل والرجاء. يقول تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”. فداوم على ذكره، وأخلص في عبادته، وأكثر من مناجاته، واستعن بصحبة أهل طاعته، فإذا وجدت قلبك مقبلاً عليهم مفتقداً لمجالستهم،، فاعلم أن الله قد ضمك إلى جنده، واصطفاك لتكون من حزبه، وتوقع من الكريم إجابة سؤلك، وقبول حوبتك، ورفع درجتك.
(ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).