ذكرنا في مقال سابق الخلاف التقليدي بين القوميين والإسلاميين والذي كان لمصلحة عدوهما المشترك فقط، وذكرنا ما يستفاد من القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال بعض العلماء في هذا الباب، وبخاصة الأستاذ حسن البنا، يرحمه الله، ونظرته للقومية بقلمه وليس نقلاً عنه، والحديث عن القوميين والإسلاميين لا يعني أنهما وحدهما الشعب أو الأمة، إنما هناك شرائح حزبية وقوى وطنية أخرى معنية بالتفاهم والمراجعة والعمل المشترك، ونضيف في هذا المقال ما يلي:
دواعي التفاهم والتعاون والتكامل:
أسباب التفاهم ودواعيه كثيرة جداً وأكبر من نقاط الاختلاف الموهومة ومنها:
1- العروبيون يؤمنون بالوحدة العربية التي تضم قلب العالم الإسلامي، والإسلاميون يؤمنون بالوحدة الإسلامية التي تضم العرب أولاً، ثم الشعوب الأخرى الراغبة بذلك إنْ وجدت، ولم لا يعمل الطرفان سوياً لتحقيق المرحلة الأولى ثم يكمل من شاء بعد ذلك، لوحدةٍ أوسع؟
2- لقد انتفت “القطرية” من الطرحين الإسلامي والقومي على حد سواء، إلاَّ مرحلياً للضرورة وليس إستراتيجياً، وقد اشتركا في الهم العام أو الأعم على مستوى الأمة.
3- وقد اشتركا ديانةً أو قيماً وأخلاقاً عامة، واشتركا في هدف إسعاد مجتمعاتهم.
4- وقد اشتركا في قبول التعددية الفكرية والسياسية.
5- وقد ثبت العداء الصهيوني لكلا الخطين، فالكل مستهدف؛ الإسلامي والقومي على حد سواء، فالدولة الديمقراطية المستقلة المنتمية لشعبها وأمتها مرفوضة، وقد صمم العدو على تدميرها سواء، وهل من حاجة للتدليل على هذا؟ فلم التشاحن والتضاد؟
6- إذا كان العروبيون لا يعترضون على الإسلام عقيدة وأخلاقاً، ولا يتنكرون للإسلام بل ويمارسون الشعائر التعبدية الإسلامية، ويشيرون إلى أنَّ الرسالة الخالدة في شعارهم هي الإسلام، وإذا كان الإسلاميون يتعبدون الله بقراءة الآيات القرآنية التي تمجد العرب عندما تميزوا بالإسلام، وقد نزل الكتاب الخاتم بالعربية (لغة العرب)، وإذا كانت اللغة الحاضنة (العربية) هي لغة القرآن الكريم، فلم التفرق بعد هذا كله؟
قراءة لنتيجة الصراع:
ونتيجة الصراع بين الإسلاميين والقوميين لم تكن صفرية، بل كانت وبالاً على الأمة بأكملها، وقد تجاوزتنا شعوبٌ ودول، وحتى التي استقلت بعدنا وتحررت من الاستعمار، إضافة إلى ضياع كثير من الأرض العربية وتشريد أهلها في أرجاء الأرض، فلم ينجح من كان يرى المخرج والمنقذ، هو وحدة الأمة العربية أو وحدة الأمة الإسلامية لتحقيق هذه الغاية ولم تتم وحدة على أساس عروبي أو إسلامي أو غيرهما.
ولم يستطع أحدهما إلغاء الآخر بقوة السلاح أو قوة المنطق والأيديولوجيا والتي مورست خلال عقود.
بعيداً عن الاختلاف على التفصيلات وعمن يتحمل المسؤولية أكثر من الآخر عن هذا الافتراق بل العداء الشديد الذي ربما فاق مستوى أعداء الأمة الحقيقيين، وقد استنزف الطاقات، وكانت النتيجة مُرّة جداً، ومحصلتها ضياع العرب والعروبة ولم ينتصر دعاة الإسلام، وضاعت قضية الأمة المركزية (فلسطين)، وساد الحكم الدكتاتوري الفردي حفاظاً على الذات من الأعداء الحقيقيين والموهومين، وعاشت الشعوب العربية في ذيل القافلة الإنسانية حتى اليوم.
وتدخلت الأيدي الخارجية الأجنبية بشكل مباشر وغير مباشر، واتخذت وسائل متقدمة وذكية وخفية، لإبقاء الخلاف مشتعلاً حتى بين أبناء الاتجاه الواحد سواء كان قومياً عروبياً أو إسلامياً واعتمدوا منهج “فرّق تسُد” ونجحوا فيه.
يظهر أن الجميع دون استثناء وقع في هذا الشَّرك القاتل الذي لم يستفد منه شعب ولا وطن ولا حزب ولا جماعة ولا دولة ولا أمة ولا عدالة ولا حرية، إنما كان المستفيد الوحيد هو العدو الصهيوني أولاً ومن يقف وراءه.
ويمكن أن تقول: إن “القوميين العروبيين” و”الإخوان المسلمين” تنازعوا واقتتلوا بالوكالة دون وعي منهما لصالح طرف آخر عدو للأمة يهدد حاضرها ومستقبلها ويلغي وجودها حية قوية مستقرة.
كما يمكنني القول: إنه لم تتم مراجعات ذاتية في كلا الخطَّين، ولم تجر حوارات هادفة بين المنهجين، إنما كان الحوار بالسجن والمطاردة والاغتيال والقتل، والتشكيك حتى اليوم فيمن يطرح هذه الأفكار.
لقد انطلى على الفريقين الإسلامي والقومي في ظل الاستسلام للانطباعات والضجيج والعواطف والاتهام الدائم والتسرع والغفلة واستدعاء الخلافات التاريخية، وبسبب النهوض المتثاقل لها، والذي جعلهما بين النوم واليقظة، أنه لا يمكن الجمع بين الإسلامي والقومي، بل إنّ كلاً منهما عدو للآخر، ولا يمكن قيام أحدهما إلا بإلغاء الآخر، بل لا يمكن النهوض إلا بإلغاء الآخر وشطبه، هذه حالة مؤلمة يجب الاعتراف بها ومغادرتها مهما كانت حصة كل فريق منهما من المسؤولية عنها والجهالة فيها.
لقد تأخرنا نصف قرن أو يزيد نحن العروبيين والإسلاميين عن مراجعة جادة لمواقفنا، ولا بد من تحريك المياه الراكدة، وضبط بوصلة الأمة نحو قضاياها الحقة لا المدعاة.
لا بد من ظهور هيئة عليا من الحكماء الأردنيين ليخططوا لنهضة بلدنا بحكمة وبرؤية عربية إسلامية مشتركة مستقلة واعية.
لا أدعو لأن يذوب القوميون في الإسلاميين والإسلاميون في القوميين، إنما لنتوقف عن تقسيم الأمة على هذه الأسس المصطنعة وليذوب الجميع هم وغيرهم في مشروع وطني واحد يُعنى بالهم الداخلي المحلي لكنه لا يغفل البعد القومي والإسلامي والإنساني الأوسع.
واليوم فنحن متفقون على:
1- الخلاف بين الإسلاميين والعروبيين لم يستفد منه إلا العدو الصهيوني، ويجب أن نبحث عن طرق لتجاوزه وحسن إدارته.
2- لا يمكن أن يحصل إصلاح حقيقي قُطْري كامل إلا باعتبار الأمة وحدة واحدة متكاملة.
3- لا بد من إحياء حالة التوافق العربي والإسلامي برؤية واضحة.
4- إنّ الاختلاف الذي يُنَمّى بين أبناء الأمة، ما هو في معظمه إلاَّ على فتات لا قيمة له، أو هو ناجم عن غياب المعلومة الحقيقية والوهم المستمر.
كم تشعر بالألم الشديد وبخاصة عند مراجعة تاريخنا القريب خلال المائة عام الأخيرة والتي كان فيها الجميع ينشد الاستقلال والحرية والعدالة والخير، وقد بذل الآباء والأجداد من دمائهم ومقدراتهم الكثير، أملاً في غدٍ أفضل، ولكن النتيجة كانت ما نشهده اليوم.
والأكثر إيلاماً أن الأمة بدلاً من أن توجه سهامها للخارج دفاعاً عن نفسها، وبناءً لمستقبلها وصالح أبنائها، تصارعت داخلياً صراعاً مريراً، وبخاصة في أبرز مكونين أساسيين فيها، وهما الإسلاميون والقوميون.
الإسلاميون لا يمثلون جميع المسلمين، والعروبيون لا يمثلون جميع العرب، ولكنهما في المقدمة ومسؤوليتهما أكبر.
لكن الاستسلام لهذه الحالة والاستمرار فيها جريمة الجرائم، ولا بد من رواد صادقين يصححون الخطيئة ويستدركون ما فات، ويقلبون الصفحة، ويخترقون الحالة الموروثة بتجاوز عقدهم جميعها، ويبنون غداً واعداً، وهل يعتبرون هذا من أوجب واجباتهم الوطنية والدينية والقومية ولا يُصغون لوسوسة البعض الجاهز للتيئيس دائماً لتسهيل القعود والتكامل وتسويقه بالقول هذه أماني، وخيال، واستعراض وثرثرة، ولكن هذا هو الطريق ولا مخرج سواه، فهل من مبادر يمد يده؟