(بطاقة للفقير، وبيوت للقطط، وفريق خاص للمعاقين، وحاويات جميلة في الطرقات، وألعاب ترفيهية للأطفال عند كل بناية)، هذا ما لفت نظري في زيارتي الأخيرة لتركيا، فقد زرنا مدينة (باشاك شهير) وهذه المدينة كانت مشهورة بكثرة أماكن الدعارة وبيع المخدرات وكثرة الجريمة، وقد وضعت لها البلدية خطة تطويرية منذ خمس سنوات، فتحولت المدينة إلى أجمل مكان سياحي بتنظيم بنائها ونظافة طرقها وجمال حدائقها وبساتينها، وفيها وادٍ كانت مياه المجاري تسيل فيه، والآن تراه جميلا بالألعاب الرياضية والحدائق المعلقة والمطاعم التركية الشهيرة، وبعد هذه الجولة الجميلة في المدينة زرنا رئيس بلديتها لنتعرف على تجربتهم في كيفية تحويل المدينة من مدينة كانت رمزا للجريمة والمجرمين إلى أشهر مدينة سياحية، تمتاز بالتكافل الاجتماعي بين الجيران والاهتمام بالفقير والمعاقين.
وبعد شرح الخطة التطويرية ذكر لنا ابتكارا طبقته البلدية للتعامل مع الفقراء، يحفظ لهم كرامتهم ولا يشعرهم بذل السؤال، وذلك من خلال صرف بطاقة لكل فقير يشتري بها ما يحتاج إليه شهريا من الأسواق، وقد تفاعل معها الفقراء وشعروا باحترام وتقدير لذاتهم، ثم تحدث معنا عن تشكيل فرقة تطوعية تتكون من خمسين شابا وفتاة، يجلسون على الكراسي المتحركة لذوي الاحتياجات الخاصة، ويجوبون كل أسبوع في شوارع المدينة وسككها، فيكتشفون الطرق التي لا تصلح لسير كرسي المعاق فيرفعوا فيها تقريرا ليتم تسويتها وإصلاحها، ثم سألناه عن سبب كثرة ألعاب الأطفال التي رأيناها ونحن نمشي بالمدينة، فقال: إن قانون البلدية في تركيا لا يسمح لأي تاجر يبني بناية تجارية ليس فيها حديقة ومكان مخصص لألعاب الأطفال، وإلا لا يسمح له بالبناء ولا يرخص له، وحسب ما أفاد فإن في المدينة أكثر من ألف بناية تجارية للسكن.
كرر لنا رئيس البلدية أكثر من مرة أن شعارهم هو “خدمة الناس ودعم العمل الاجتماعي وتطويره”، ولهذا فإن البلدية تتبنى مثل هذه المبادرات الاجتماعية، بل ومن جميل ما رأيت على الأرصفة وأنا أمشي بالطرقات بيوتا صغيرة على شكل مثلث، فسألت صاحبي: ما هذه الأكشاك الصغيرة؟ فقال: هذه بيوت جديدة عملتها البلدية للقطط الضالة بالشوارع، تحتمي فيها ليلا أو وقت البرد، وقد تم توزيع هذه البيوت في كل شوارع استانبول.
مثل هذه المشاريع الاجتماعية من أشخاص حريصين على خدمة الناس وكسب قلوبهم ليحققوا لهم العيش الاجتماعي الآمن، ذكرني بما كان يفعله عمر الفاروق رضي الله عنه لتحقيق الأمن الاجتماعي، وذلك بفرض مبلغ لكل رضيع، وتحديد مدة سفر المجاهد حتى لا يطيل على أهله، وقد زرت أكثر من مؤسسة اجتماعية في تركيا ولمست حبهم للدين وخدمته من خلال المشاريع الاجتماعية، وتلمست التدين الحقيقي عندهم على الرغم من أننا نتعامل مع أشخاص أحيانا لا يوحي شكلهم أنهم متدينون، ولكنهم ذوو أخلاق عالية، وملتزمون بصلاتهم ويسعون لخدمة الناس ومجتمعهم، فتذكرت كلمة جميلة للأديب والمؤرخ المصري أحمد أمين (متوفى 1954)، عندما قال “هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي، وبين الأسد وصورة الأسد، وبين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة؟.. فإذا عرفت ذلك عرفت الفرق بين التدين الحقيقي والتدين الصناعي”، تذكرت هذه الكلمات وأنا أرى تدين الأتراك، فالمشاريع التي يقيمونها مستمرة لا تتوقف، وهم منطلقون في خدمة الإسلام والمسلمين، بل إنني زرت أكاديمية الفاتح واجتمعت مع مديرها وهو(د.آدم) فعلمت أن من أهدافه تعليم اللغة العربية لخمسة ملايين تركي، وقد حقق حتى الآن ثلث هدفه، فسألته عن سبب ذلك فقال: إن اللغة العربية هي لغة القرآن وهي هويتنا، كما أنها جزء من عقيدتنا، وهي وسيلة الخطاب والتفاهم بين كل المسلمين.
إن هناك فرقا واضحا بين من يحمل الدين برأسه ومن يحمله بقلبه، وهناك فرق بين من يتغنى بالدين ومن يكون الدين همه ويعمل لتحقيقه، وهناك فرق بين من يكثر الكلام بالدين ومن يكثر العمل به، وهناك فرق بين المتدين الفاضي الذي يجوب بالأسواق ويقلب صفحات النت، ويدمن على شبكات التواصل الاجتماعي، والمتدين صاحب المشروع الذي يعمل من أجله، كما أن هناك فرقا بين المتدين الحقيقي والصناعي، إن النموذج الديني التركي العملي نموذج يستحق الدراسة والتأمل.
المصدر: جريدة “الكويتية”