حسين غصن في شجرة آل عاشور التي وهبت نفسها للإسلام دفاعاً عنه ودعوة إليه
تجربة «المختار الإسلامي» جذبت الشباب كما طرحت رؤية صحفية مغايرة في الميدان الدعوي
«الاعتصام» و«المختار» صدرتا مرة أخرى في أوائل عهد «مبارك» لكنهما واجهتا أزمات التضييق والتمويل
في ظهيرة الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة 1438هـ/ العاشر من مارس 2017م، رحل عن دنيانا الحاج حسين أحمد عيسى عاشور، مؤسس مجلة «المختار الإسلامي» ودارها للنشر والتوزيع، بعد حياة تقرب من ثمانين عاماً حافلة بالجهاد من أجل الفكرة الإسلامية والتضحية دفاعاً عن الأمة الإسلامية ووجودها ودينها وكرامتها وعزتها.
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي رحبت على صفحات «الاعتصام» بالشقيقة الجديدة «المختار الإسلامي» التي وُلدت في حقل الصحافة الإسلامية بقطع مميز ومنهج مغاير للصحف الإسلامية القليلة التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ربما كانت تريد السير – في طموح شبابي إسلامي جديد – على نهج المجلة الشهيرة آنئذ «ريدرذ دايجست» التي كانت تصدر طبعتها العربية «أخبار اليوم»، وكانت تخاطب الشباب بالدرجة الأولى وتقترب من قضاياهم وأفكارهم.
كان حسين عاشور يومئذ في عنفوان نشاطه الإنساني والفكري، وخاض تجربة الصحافة الإسلامية بجوار مجلة «الاعتصام» العريقة التي أسسها والده في ثلاثينيات القرن العشرين (1934م)، وأدارها شقيقه الأكبر حسن، ورأس تحريرها شقيقه د. محمد، وحملت لواء التصحيح للمفاهيم الإسلامية، ومعارضة الطغيان في العهدين الملكي والعسكري، ومع تواضع «الاعتصام» طباعة وشكلاً وتوزيعاً؛ حيث كانت توزع في البداية على أبواب المساجد، فإنها كانت تمثل قلقاً للسلطات المستبدة، وإزعاجاً للطغاة الذين لا يحبون أن يقترب أحد من ذواتهم بكلمة ناقدة أو صرخة غاضبة.
ميدان الفرسان
كان الوالد المؤسس لـ«الاعتصام» الشيخ أحمد عيسى عاشور – رحمه الله – الذي تخرج في الأزهر، ولم يعمل في الحكومة ليكون مستقلاً في كلمته ورأيه، قد جعل من «الاعتصام» ميداناً لفرسان الكلمة من علماء الأزهر والكتَّاب الثوار الذين لا يبغون غير وجه الله، ولا يخافون في الحق لومة لائم، ولا يسعون إلى شهرة زائفة أو غاية دنيوية رخيصة، أثر ذلك في وجدان الراحل الكريم حسين، وملأ كيانه بالرغبة في نهضة البلاد وخدمة الإسلام، لا سيما أنه رأى «الاعتصام» بقيادة شقيقيه محمد، وحسن عاشور، وخاصة في عهد «السادات» تقود المعارضة الحقيقية، وتقفز قفزة جديدة في ميدان التطور الفني والتقني؛ فقد أخذت تطبع في مطابع «الأهرام» بعد أن كانت تطبع في مطبعة يدوية، وبدأت تعرف الألوان، وراح التحرير يأخذ صورة عصرية جديدة تهتم بالإخراج والعناوين والحروف، لدرجة أن بعض المتابعين أطلقوا عليها اسم «روز اليوسف في عهدها الذهبي».
تجربة المختار الإسلامي جذبت الشباب في الجامعات والمدارس، كما طرحت رؤية صحفية مغايرة في الميدان الدعوي الإسلامي، واستقطبت عدداً من الكتَّاب المميزين، وأخذ توزيعها يزداد وينتشر داخلياً وخارجياً، وفي الوقت ذاته كانت دار النشر التي أنشئت بجانبها تقوم بدور فعال في نشر الكتب التي تتناول الفكرة الإسلامية تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً، وتلقى استجابة من القراء والمكتبات، خاصة أنها اتبعت طريقة بسيطة ميسرة تعتمد على نشر سلاسل الكتب على هيئة رسائل محدودة الصفحات في حجم الجيب، رخيصة الثمن؛ مما يسهل على الناشئة والشباب الحصول على الفكرة واستيعابها، كما قامت بخطوة مهمة وهي تقديم الكتَّاب من العالم الإسلامي والغرب، فعرفنا كتباً للمسلم الهندي وحيد الدين خان، والأسرة الندوية هناك، واحتفت بكتابات المستشرقين الذين أسلموا، ونشرت وثائق مهمة تتعلق بالتاريخ الحديث ساعد في الحصول عيها كتَّاب مصريون وعرب يعيشون في بلاد الغرب.
تجفيف المنابع
كانت القاصمة التي قصمت ظهر المسلمين في مصر والعالم العربي وبالتبعية الصحافة الإسلامية؛ معاهدة «كامب ديفيد» التي فرضت سياسة المقايضة بين الإسلام والسلام، ففرضت سياسة تجفيف المنابع؛ أي محاربة الإسلام واستئصاله (لم تكتفِ بإقصائه)، والتقى خبراء يهود وصليبيون من أمريكا ومصر لتنفيذ هذه السياسة، وكان في مقدمة أهداف السياسة أو الخطة الصحافة الإسلامية، ومع عملية التنكيل بالمعارضين في سبتمبر 1981م، واعتقال قيادات المعارضة البارزين، كان القرار الأهم إغلاق الصحف الإسلامية؛ «الاعتصام»، «الدعوة»، «المختار الإسلامي».. وبالطبع اعتقال القائمين عليها، وأفلت حسين عاشور من الاعتقال حتى ظهر بعد أن تغيّرت الأحوال عقب مقتل «السادات» في السادس من أكتوبر 1981م، وإن كان شقيقه الأكبر حسن قد عانى ويلات السجن (الذي كانوا يسمونه تحفظاً) حتى تم الإفراج عن المعتقلين.
المشكل الأخطر هو القانون الذي صاغه «ترزية» القوانين لإكمال خطة استئصال الصحافة الإسلامية صوت الإسلام ولسانه الناطق، حيث ربط استمرار رخصة الإصدار الإسلامي بحياة صاحبه، فقد لاحظ الأصدقاء الجدد لدولة الكيان النازي اليهودي أن معظم أصحاب الرخص من كبار السن، وأن الأجل قد اقترب، وبهذا يكون سقوط الرخصة مسألة عادية، أما الحصول على رخصة جديدة فدونها خرط القتاد، وأذكر أن الإخوان المسلمين في عهد الأستاذ عمر التلمساني تقدموا بطلب رخصة لإصدار «الدعوة» من جديد وفقاً للشروط التعسفية التي وضعها «ترزية» النظام، وحتى اليوم (ما يقرب من أربعين عاماً) لم تصدر الرخصة، ولن تصدر في ظل الهيمنة اليهودية على العالم العربي!
ومع أن «الاعتصام» و«المختار» صدرتا مرة أخرى في أوائل عهد «مبارك»، إلا أن الأزمات أخذت تلاحقهما بسبب التضييق ومشكلات التمويل وعدم انتظام الصدور، وتوقفت «الاعتصام» بعد رحيل الوالد المؤسس أحمد عيسى عاشور عام 1987م، ولم تسمح السلطة بصدور العدد الأخير الوداعي الذي يرثي الرجل ويذكر مناقبه.
أما «المختار»؛ فقد تعرضت لصدمات عديدة غير الأزمة المالية التي عصفت بدار النشر ومطابعها، وكانت وفاة النجل الوحيد لحسين عاشور وهو شاب في مقتبل العمر تاركاً وراءه طفلة رضيعة صدمة عنيفة، ولكنه تجاوزها بفضل الله أولاً، ثم بإيمان الواثق وصبر المؤمن على الابتلاء، فبارك الله في ابنته التي ساندت أباها، واستمرت مسيرة «المختار الإسلامي» متعثرة في مناخ معاد تماماً للحرية والعقل فضلاً عن الإسلام.
حسين غصن في شجرة آل عاشور التي وهبت نفسها للإسلام دفاعاً عنه ودعوة إليه، ولقيت مثلما لقي المسلمون المخلصون متاعب عديدة احتسبتها عند الله سبحانه الذي يبتلي ويكافئ، كانت بقية الأغصان تنمو وتتفتح في ميدان النشر وخدمة الناس بالإسهام في شتى ميادين التكافل الاجتماعي والرعاية الصحية ومساعدة الضعفاء والمحتاجين، وما زال الأشقاء يواصلون العمل في ظل الحصار والتضييق ومطاردة كل صوت إسلامي حقيقي، لا يساوم على الدين ولا يبيع نفسه في سوق النخاسة الدولية البشعة التي تستقطب المنافقين والخائنين وأبناء كل العصور!
رحم الله حسين عاشور، وأنزله منازل الأبرار والصالحين، وعوض الأمة والإسلام عنه خيراً.