من أكثر ما يمكن أن يكون مثار خلاف بين الأفهام هو حدود حضور الدين داخل المجال العام، ولعل هذا الخلاف هو أصل الاختلاف بين التصورات الإسلامية المختلفة بأنواعها من جانب، وبينها وبين التصورات القائمة على أسس غير إسلامية من جانب آخر.
هذا الخلاف ولد تجليات كثيرة، كشفت في بعض الأحيان عن مناطق عور في نظرة البعض للدين ولكيفية حضوره.. ففي حين ترى بعض تلك التصورات أن النقاب فريضة يعني التخلي عنها تخليا عن الثوابت، إذا بها ترى الدفاع عن هذه المرأة لابسة النقاب ضد محاولي اغتصابها “زوجة أو أختا أو أما أو بنتا..” مع تيقن الهلكة غير جائز! مستسيغة تركها فريسة للاغتصاب؛ لأن الدفاع عن النفس مقدم عن الدفاع عن العرض حسب تصوراتهم..
هذا الخلاف منشؤه خلاف في تصور الدين نفسه وفهمه، ودوره في حياة الإنسان، وما يجب أن يكون عليه في معالجته كل القضايا التي تخص سواء الشأن الخاص أو حتى المجال العام.
و”أكشاك الفتوى” أحد تجليات هذا الخلاف، ففي حين كانت الظاهرة محل انتقاد لدى البعض كونها تمثل عبثا بالدين، ومحاولة “رخيصة” لتوظيفه توظيفا خاطئا.. رآها آخرون إيجابية، ومحاولة في الاتجاه الصحيح لإعادة ضبط بوصلة الناس على صحيح الدين من خلال علماء ثقات خاصة في ظل عالم مليء بالفهوم المغلوطة التي ولدت فتوى سوغت الإرهاب والدمار..
وظاهرة “أكشاك الفتوى” لمن لا يعرف هي عبارة عن مشروع أقامه الأزهر الشريف بالتعاون مع هيئة مترو الأنفاق المصرية لإقامة (كشك) “وهو هيكل ألومونيوم صغير يتسع لشخص أو اثنين” للفتوى في كل محطة من محطات المترو يجلس فيه عالم أزهري يتلقى أسئلة الجماهير ويجيب عنها..
وبعيداً عن أصل الخلاف الذي أنتج التباين حول تلك الظاهرة فإن الحكم عليها ينبغي أن ينطلق من فهم سياقها الذي أنتجت فيه، وكذا من طبيعة التعامل الشعبي معها واستشراف مستقبلها بناء على ذلك.
ما قبل الأكشاك
وهنا سأتحدث عن معلومات يدركها جيداً كل المتابعين للحالة الدينية في مصر المحروسة، وخاصة صحفيي الشأن الديني.
فالإمام الكبر أ.د. أحمد الطيب وقبل أن يتولى مشيخة الأزهر كان له مشروع يعرفه كثيرون، ولولا الظروف السياسية التي مرت بها مصر بعد فترة صغيرة من توليه، لكان قد شرع في خطوات هذا المشروع.
المشروع باختصار هو محاولة إعادة الفتوى والدعوة إلى الأزهر المؤسسة، بعيداً عن استقلالية وزارة الأوقاف بالدعوة ودار الإفتاء بالفتوى.. ولعل أحد الأسباب الخفية لخلاف النظام المصري مع شيخ الأزهر في الفترة السابقة كان هذا السبب، بحسبان الرجل قد بدأ مناوشاته الأولية لمشروعه بخلافه مع وزير الأوقاف.
ويمكن أيضاً هنا قراءة أحداث كثيرة سبقت ظاهرة “أكشاك الفتوى” حاول من خلالها شيخ الأزهر إعادة الأزهر للواجهة بطريقة أو بأخرى.
منها مثلاً ما حدث في أبريل الماضي من إطلاق الأزهر للبث التجريبي لـ”مركز الأزهر العالمي للفتاوى الإلكترونية”، بالإضافة إلى إتاحته على تطبيق أندورويد للهواتف المحمولة.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن دار الإفتاء المصرية كانت سباقة في هذا المجال ومحاولة الأزهر الدخول إليه تمثل مناكفة في محاولة انتزاع كامل الهيمنة على مجال الإفتاء من الدار، داخل صراع لم يعد مكتوماً بين المبنيين المتجاورين بحي الدراسة بالقاهرة.
أيضاً يمكن الحديث عن إطلاق الأزهر مطلع الشهر الجاري لقوافل توعية من وعاظه للتواصل مع المواطنين في المناطق الحدودية مثل “أبو رماد، حلايب، شلاتين، أبوسمبل ومرسى علم”.
وبعد إطلاق هذه المجموعة من القوافل بأسبوعين فقط كانت هناك مجموعة أخرى لمحافظة جنوب سيناء، للتواصل مع الشباب بالوديان والتجمعات البدوية ومراكز الشباب وقصور الثقافة وغيرها؛ لتوعية الشباب ضد الأفكار الهدامة وتحصينهم من مخاطرها، حسب بيانات الأزهر الصحفية.
وإمعانا في الانتشار قرر الأزهر إطلاق مجموعة من الوعاظ النوعيين للتواصل مع المواطنين فيما أسماها بـ “المقاهي الثقافية”، والتي ينظمها مجمع البحوث الإسلامية في عدد من محافظات الجمهورية بدءاً من أسوان وحتى الإسكندرية.
وخلال شهر رمضان الماضي أعلن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر عن تنظيم لقوافل دعوية تجوب محطات المترو، لتتحدث مع المواطنين وتجيب على استفساراتهم الدعوية والفقهية..
“أكشاك الفتوى” إذن ليست وليدة فراغ.. وإنما هي خطوة وإن كانت “نوعية” بعض الشيء، إلا أنها حلقة في سلسلة طويلة بدأها شيخ الأزهر عقب انتهاء خلافه مع النظام ولو ظاهريا..
وهنا.. ومع التسليم بصحة هذا التحليل.. يمكن تصور سيناريوهين اثنين لهذا التصرف، بحسبان الأزهر أيضا لا يعمل في فراغ ولا يمكن أن يتركه النظام بعيدا عما يراه مصلحة له..
السيناريو الأول: أنا وليس أحد غيري:
فلعلها رسالة من شيخ الأزهر للنظام بعد أن هدأت عاصفة الخلاف معه ولو جزئيا.. يؤكد فيها على أنه الوحيد القادر على الوصول إلى مدى لا يصل إليه غيره، وأن الثقة التي يمنحها له رجل الشارع تفوق غيره بمراحل، ولذا فإن قدرته على التأثير في الجماهير مضمونة، ولهذا فقد قرر استعراض قوته أمام النظام ليدرك أنه رقم مهم في المعادلة لا يمكن تجاهله.
هذا السيناريو يمكن ترجيحه في ظل مهاجمة بعض المحسوبين على السلطة للأزهر بعد هذا التصرف، ووصفهم له بأنه ضد مفهوم الدولة المدنية، وأنه يرسخ للكهنوت الديني في حياة الناس، وهو ما يتعارض مع مبادئ الليبرالية التي يتصور البعض أن مصر تنتهجها!
السيناريو الثاني: ثمن الولاء:
“هدفنا الأساسي من أكشاك الفتوى هو حماية المواطنين من المتشددين والتكفيريين الذين يستحلون دماء الغير من خلال الفتاوى..”.
هذا تصريح لأمين عام مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، وهو تصريح يوحي بالتماهي الكامل مع الدولة، ويؤكد أن أحد السيناريوهات المطروحة لهذا التصرف هو كونه قد تم باتفاق مع الدولة بعد أن هدأت عاصفة الخلاف، وكأنه جزء من ثمن سيدفعه الأزهر لمحاولة العودة مرة أخرى لحضن النظام..
ومكاسب النظام من هكذا تصرف مضمونة.. فمن ناحية هو يؤكد على انه في حال حرب شاملة مع التطرف والإرهاب، بحيث هناك من يحارب بالمدفع وهناك من يحارب بالفتوى..
وهذا التجييش وظهوره إعلامياً يفيد النظام كثيراً، من حيث هو يتعايش أساساً بحجة الحرب على الإرهاب.
ومن ناحية أخرى، فإن ثقة الجماهير في علماء الأزهر ستزيدهم يقينا بما يتم الدعاية له إعلاميا بانه لا صوت يعل فوق صوت معركة الحرب على الإرهاب وبالتالي لا مجال للحديث عن غلاء أسعار ولا انهيار اقتصادي.. الدين هو من يقول ذلك!
على أي حال تبقى التجربة محكومة بسياقها.. ومحكومة بمدى ما ستوليه الجماهير من ثقة لها.. فإما أن نرى طوابير الفتاوى كما نرى طوابير الخبز، وإما ستتحول الأكشاك إلى مظهر فلكولوري يمر عليه المصريون ليلتقطوا معه الـ”سيلفي” كما يلتقطونه مع مآذن المحروسة القديمة.
المصدر: “إسلام أون لاين”.