المؤمن الكيّس مَنْ يسارع بالتعرض لنفحات الله ويعرّض لها فلذات أكباده فيكون لهم فيها نصيب وافر
الحج فيه مادة ثرية لتربية الأولاد وحسن توجيههم بداية بالتلبية وملابس الإحرام مروراً بالمناسك كلها
التوكل على الله والثقة فيما عنده مع الأخذ بالأسباب دروس مهمة من قصة السيدة هاجر ورضيعها
في قصة الذبيح اختبار الحب لله عز وجل وتفضيله على حب الولد والوالد والدنيا جميعها
من أهم الدروس التي نحتاجها أن للمسلم حرمة خاصة تستدعي التعظيم
إنها المحطة العظيمة التي إذا وصل إليها المسافر ودخلها عاد إليه طهره ونقاؤه، وولد من جديد وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.. هي محطة التنقية والتحلية، إذ ينقى فيها من أدناس الذنوب وأرجاس المعاصي، ويتخلى عن العادات السيئة، ويتحلى بزينة الإيمان، وطاعة الله ورسوله؛ وهي محطة التربية والتزكية، وفيها يقطع العهد على نفسه مع الله أن يظل وفياً في طاعته إلى أن يلقاه.
كما تتجدد فيها ذكرى الأمومة الرائعة، والأبوة الحانية، والبنوة البارة، بما لا يدع مجالاً لإهمال دروسها أو التقصير في معرفتها، مع أبطالها الثلاثة؛ الخليل عليه السلام، وزوجه هاجر، وابنهما إسماعيل، الذين خلد الله ذكرهم وأعلى شأنهم.
وإذا كان الحج لا يجب على الولد الذي لم يبلغ الحلم، إلا أن لوالديه الأجر إذا حج معهما على أن يحافظا عليه من الأذى والمرض والضياع وسط الزحام، فعن ابْنِ عباس رضي الله عنهما قَال: رَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِياً لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» (رواه مسلم)، وقال: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى» (رواه الشافعي في مسنده، وصححه الألباني).
وتتجلى في فريضة الحج الدروس التربوية المستفادة التي تتوالى درساً من بعد درس أخذاً بأيدينا وعوناً لنا على حسن الغرس والريّ والرعاية في حقل التربية الكبير، الذي يُرجَى منه أعلى وأغلى وأكبر وأعظم غلة ممكنة من لبنات الأجيال الصالحة التي تقوم بعبادة الله وعمارة الأرض.
نستطيع أن نستلهم هذه الدروس ونستخلصها مع أولادنا ونجعل منها مادة ثرية في تربيتهم وحسن توجيههم، بداية بالتلبية وملابس الإحرام، إلى جميع مناسك الحج، ففي كل منسك أكثر من درس يستفاد، فدروس الحج كثيرة وعظيمة.
سُقيا طفل
نعم، ففي هذه المحطة السنوية نستعيد مع أطفالنا ذكرى رحمة الله تعالى التي غمرت الطفل الرضيع إسماعيل وأمه هاجر بعد أن تركهما إبراهيم عليه السلام في مكة بوادٍ غير ذي زرع، وكيف أن الله تعالى جعل ماء زمزم ينبع لهما بلا انقطاع، وذلك بعد أن عطش الصغير عطشاً شديداً، وطافت هاجر سعياً بين الصفا والمروة سبع مرات بحثاً عن الماء، «ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل، وهو يَدْحَض الأرض بعقبه، وقد نبعت العين وهي زمزم» (انظر: تفسير الطبري).
وخلدت هذه الذكرى العظيمة، فلا يُذكر ماء زمزم إلا وتُذكر معه هاجر وولدها إسماعيل عليه السلام، فالله تعالى رحيم، وأقداره وإن بدت للعباد قاسية وصعبة على النفس وعسيرة فهي تحمل بين ثناياها اليسر والفرج والرحمة والخير، وإن في هذا الحدث درساً عظيماً يمكننا الاستفادة منه في تربية أولادنا، ففيه من دلالات التوكل على الله والثقة فيما عنده مع الأخذ بالأسباب، وهذا ما كان من هاجر عليها السلام.
كما أنه يرسم لنا صورة الأم (هاجر) وهي ملهوفة على ولدها تخشى عليه الموت عطشاً، وكيف حاولت إنقاذه عدة مرات بالسعي بين الصفا والمروة سبع مرات بحثاً له عن الماء ليشرب ويرتوي! إنها أم حانية تحمل بين جوانحها مشاعر الأمومة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان رائعة، كما أن فيه حسن الأدب منها مع الله والاستسلام لأمره والرضا والعمل بما يأمرنا به مهما كان شاقاً على النفس، حيث وقفت هاجر موقفاً رائعاً حين سألت: “يا إبراهيم، من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضَرْع ولا زرع، ولا أنيس، ولا زاد ولا ماء؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنه لن يضيّعنا”، إنها قيم عظيمة من قيم الإسلام التي لو تمسكنا بها وأنشأنا عليها أولادنا لأثمرت لنا وبنا حلو الثمار في الدنيا والآخرة.
“اصنع ما أمر ربك.. وأعينك”، هذه كلمات صادقة من قلب ابن مؤمن لأبيه، كانت معها مشاركة عملية في التعاون على البر والتقوى، وقد أورد البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام قال لولده إسماعيل: “إن اللهَ أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينكَ، قال: فإن اللهَ أمرني أن أبني ها هنا بيتاً، وأشار إلى أَكْمَة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارة وإبراهيمُ يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجرِ، فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيلُ يُناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فما أجمل أن يجتمع الآباء بأولادهم في عمل صالح يشارك كل منهم الآخر فيه، ويطلب الوالد عون ولده فيطيع الابن ويعين.
«فانظر ماذا ترى»، إنها رسالة شفوية من الوالد الحاني لفلذة كبده، وقد اختُبِر هذا الوالد العظيم وابتُلِي في حبه لولده إذ أمره الله بذبحه! إنه اختبار الحب لله عز وجل واختياره وتفضيله على حب الولد والوالد بل والدنيا جميعها، يصورها لنا القرآن الكريم، قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102}) (الصافات).
نِعمَ الوالد ونِعمَ الولد! ولا عجب أن يكافئ الله كلاً منهما بما يحب، فكانت النجاة والفداء بذبح عظيم، وكان الذكر الحسن الخالد، أما الرضا والقبول فأعظم جائزة لهما من الله، إنها ثمرة الطاعة لله حين يقبل العبد عليها دون تلكؤ أو تقاعس، ودون اختلاق أسباب ومبررات لرفضها، أو النظر والركون لهوى النفس وشهواتها، وما أعظمه من درس!
حرمة المسلم
للمسلم حرمة خاصة تستدعي التعظيم والحفظ والرعاية، وهذا من أهم الدروس التي نحتاجها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟»، قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا؟»، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا؟»، قالوا: شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (رواه البخاري)، وقال: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم)، وقال: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» (رواه النسائي، وصححه السيوطي)؛ لذا نجد أن عبدالله بن عمر حين نظر يوماً إلى الكعبة قال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك»، وليس من تعظيم الحرمات القيام بترويع الآمنين وسفك دمائهم واستحلال أعراضهم وضياع حرمتهم، بل ليس ذلك من الإسلام في شيء.
إن المؤمن الكيس هو من يسارع بالتعرض لنفحات الله ويعرّض لها فلذات أكباده؛ فيكون لهم فيها نصيب وافر من العمل الصالح والتقرب إلى الله، وهذه المواسم فرصة عظيمة لا تعوّض؛ لذا فإن على الآباء اغتنامها لتزكية نفوسهم وتربية أولادهم، فلا يفوتهم عشر من ذي الحجة التي هي أفضل أيام السنة، والعمل فيها فضيل مثلها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” (رواه أحمد).
ولا يغفلون عن يوم كيوم عرفة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “صيامُ يوم عرفة، أَحتسبُ على الله أن يُكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده” (رواه مسلم)، وهم أيضاً يعيشون يوم النحر مع فرحة الطاعة وتمامها، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر” (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، أما أيام التشريق فهي كما قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل” (رواه أحمد، وصححه الألباني).
هكذا نعيش مع أولادنا الأزمنة الشريفة ونغتنم ساعاتها ولا نضيعها، فنكون خير الآباء والأمهات لخير الأولاد والبنات.