اضطر كثير من المسلمين للهجرة لدول الغرب لأسباب مختلفة منذ سنوات طويلة، تجاوز وجود بعضها الجيل الثالث، كما تستضيف تلك الدول مشكورة عشرات الآلاف من اللاجئين بصفة إنسانية، والتكفل بتعليمهم وعلاجهم ومعيشتهم، مع حريّة العبادة، وأخيراً منحهم جنسية تلك البلاد.
ويعيش المهاجرون في البداية حياة الصدمة، ثم يتأقلمون مع ثقافة وقيم وقوانين تلك البلاد، فمنهم من ينغمس في تلك الثقافة، ومنهم من ينزوي على نفسه حفاظاً على هويته ودينه، فاتجهوا لبناء المساجد والمراكز الإسلامية للحفاظ على أبنائهم.
إلا أن الانعزال عن المجتمع يورث الاكتئاب والتوتر، فكان من الأفضل للمهاجرين التعايش مع تلك البلاد، مع المحافظة على القيم والهوية الإسلامية، ليكون ذلك سبباً في التعارف بين الشعوب “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، خصوصاً وأن الإسلام أمة وسط.
وكلنا يعرف أن الإسلام انتشر قبل مئات السنين بحسن الخلق في العديد من بقاع العالم، مثل إندونيسيا ودول الملايو، فلن يصعب تكرار ذلك بحسن الخلق.
ولا شك أن الاندماج والتعايش أفضل من التقوقع على الذات، فالمسلمون الغربيون لديهم كفاءات عديدة في مجالات مختلفة، بإمكانهم التميز والتفوق فيها، مع التميز بأخلاقهم، فمنهم الأطباء والعلماء والمهندسون والتجار على مستوى عالمي، وكذلك الأدباء والإعلاميون والفنانون والرياضيون.. وغير ذلك، وعرفوا بحسن الخلق، فأحبهم الناس.
فعلى سبيل المثال اشتهر اللاعب زيدان بأنه كان باراً بأمه، وسبب طرده الشهير أن اللاعب الآخر شتم أمه فضربه زيدان برأسه، وانظروا من استقبله عندما عاد إلى بلاده.. استقبله رئيس الدولة، أرأيتم ماذا فعل البر، وكيف احترم الناس أخلاقه دفاعاً عن أمه! ولدينا عشرات اللاعبين المسلمين في الدوري الأوروبي، الذين عرفوا بحسن الخلق، وبعضهم لا يلعب حتى يقرأ القرآن، ويتوقف عن التمرين إذا دخل وقت الصلاة، فجعل الكل يحترمهم لحسن خلقهم.
وكلنا يذكر حريق البرج قبيل الفجر في لندن في يونيو الماضي، والذي كان الفضل للمسلمين في إنقاذ السكان عند خروجهم من صلاة القيام، وكذلك استيعاب المساجد بعد إعصاري “هارفي” و”إرما” في أمريكا لجميع المتضررين دون النظر لدينهم، ونقل الصلوات لمكان آخر، في الوقت التي اعتذرت فيه الكنائس عن استقبالهم، وتلويح الرئيس الأمريكي بطرد المسلمين تارة، والقضاء عليهم تارة أخرى، والنماذج الإيجابية كثيرة.
نعم.. فمن يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولو استذكر كل واحد منا موقفاً واحداً لحسن التعامل مع الآخرين وحسن الخلق، وأثره في المجتمع الغربي والشرقي، والشمالي والجنوبي، لسمعنا عشرات بل مئات المواقف، ولما وسعتها عشرات الكتب، والتي كانت إما سبباً في الدخول في الإسلام، أو في تغيير مواقف عديدة، والتاريخ شاهد على ذلك.
لقد وصل المسلمون في أوروبا لمناصب عالية، ولولا هذا التعايش القديم من أولئك الأشخاص واندماجهم مع المجتمع، وتمثلهم بالخلق الحسن، لما وصلوا إلى ما هم عليه، فكان منهم الوزراء والمحافظون والمديرون.
وتحتاج الأسرة المسلمة للاستقرار في الغرب إلى: التقوى، والمودة والرحمة، وقيادة الوالدين، مع الحوار البناء مع الأبناء، وضرورة ربط الأبناء بالصحبة الصالحة، وتحبيبهم بالمسجد والدروس القرآنية والدينية.
ومن المفارقات اللطيفة؛ أن أرسلت أمٌّ غير مسلمة ابنها إلى المسجد، للانضمام إلى حلقات القرآن الكريم، مع زملائه المسلمين في المدرسة، فلما سألوها عن السبب؛ أجابت: أردت أن يختلط مع أبنائكم ليتعلم مِن أخلاقكم، وهذا دلالة على أثر التعايش الإيجابي عندما يقدم المسلم أخلاقه الطيبة للمجتمع غير المسلم.
إن الأخلاق عند المسلمين دين وليس إتيكيت كما يحلو للبعض، فقد قال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”، وقَالَ: “إِنَّ مِن أَحَبِّكُم إِلَيَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيامَةِ؛ أَحَاسِنَكُم أَخلَاقًا”، فحسن الخلق يكون مع المسلمين وغير المسلمين، وحتى مع البهائم.
وبالمقابل.. فقد ظهرت متغيرات حياتية كثيرة في الغرب، تجاوزت الأكل الحلال والمصافحة والبيوع، تستلزم من علماء المسلمين تدارسها بعناية، ضمن إطار العلم الشرعي المتجدد والمتطور، على أن يتناسب مع الواقع، ومتطلبات الجيل الجديد.
والله خير حافظاً، وهو أرحم الراحمين.