ابتلاء جديد ومعركة جديدة لأمتنا المستضعفة اليوم، الأمة التي تداعت عليها الأمم الأخرى بسبب وهنها، وبسبب حبها الدنيا وزينتها ومناصبها وكراسيها، وبسبب كراهيتها الموت وخوفها من مواجهة العدو وجبنها عن دفع عدوانه واحتلاله واغتصابه الأرض والحقوق، إنها معركة مدينة القدس المباركة وهويتها العربية والإسلامية، إنها مؤامرة الإدارة الأمريكية إعلان مدينة القدس العربية الإسلامية المحتلة عاصمة لليهود ولإسرائيل وقرار نقل سفارتها إليها.
وهذه مؤامرة كبرى ضد القضية الفلسطينية أخذت طريقها قبل عدة عقود، وظهرت أحداثها تدريجياً إلى أن بلغت حد إشعال منطقة الشرق الأوسط بالحروب، وزرعها بالفتن الطائفية والقومية وزعزعة الأمن والاستقرار فيها، بهدف إشغال الأمة عن قضيتها المركزية وهي القضية الفلسطينية العادلة، وعن المخططات الخبيثة الرامية إلى تهويد مدينة القدس بالكامل التي هي البؤرة المركزية للصراع الحقيقي بين الأمة والمشروع الصهيوني، وبذلك يتحقق الهدف الأكبر وهو تصفية القضية نهائياً، وتنفيذه فعلياً على أرض الواقع على حين غفلة من الأمة وفي غمرة انشغالها بقضاياها الداخلية المفتعلة والتي أصبحت في قمة التعقيد.
ليست الأولى
هي معركة جديدة للأمة، ولكنها ليست الأولى في زماننا هذا، فمنذ أكثر من خمسة عقود مضت وقعت البقية الباقية من أراضي فلسطين في براثن الاحتلال “الإسرائيلي” الغاشم عام 1967 بما فيها مدينة القدس المباركة، لتتعاظم مأساة الفلسطينيين وتتضاعف معاناتهم، فأجبروا ثانية على النزوح من ديارهم مهجرين لاجئين، فقبل أن يستيقظوا من آثار النكبة الأولى في عام 1948 حلت بهم نكبة جديدة أشد مرارة وقسوة من الأولى، لأنها كانت شاهداً على عجز الأمة ونظامها السياسي عن تحرير فلسطين السليبة الذي وعدت به شعوبها
حدث هذا قبل أكثر من خمسين عاماً مليئة بالعذاب والقهر والقتل والإذلال، ذاق فيها أبناء شعبنا الفلسطيني ويلات الاحتلال والسجون والحصار، لكنهم واصلوا المقاومة والصمود، وسطر فيها الأبطال بدمائهم سجل الخلود.
أكثر من خمسين عاماً مضت، صدرت فيها قرارات أممية تدين جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وصدرت قرارات دولية مثلها مُلْزِمَةٌ لدولة الاحتلال، لكن دولة الاحتلال هذه لا تكترث ولا تأبه لشيء، فقادتها الإرهابيون لا يُسألون عما يفعلون، فلا ميثاقَ يُلْزِمُها ولا قرارَ يردعها ولا عقوبة تمنعها، ولو وقف الكون كله في وجهها فيكفيها أن الإدارة الأمريكية ومن ينضوي تحت لوائها تساندها وتؤازرها وتدعمها إلى أبعد الحدود بكل صور الدعم: السياسي والعسكري والاقتصادي.
وعلى الرُّغم من اللاَّءات التي صدرت، والشعارات التي رُفِعَتْ، والمنظمات التي ولدت؛ إلاَّ أن القدس لم تتحرر وأرض فلسطين لم تتطهر. وعلى الرُّغم من النَّعَمَات التي سُمِعَتْ، والمعاهدات التي عقدت، والعلاقات التي طُبِّعَتْ، إلاَّ أن القدس قد تضيع، وفلسطين قد تضيع؛ إن لم يتحرك العرب والمسلمون على وجه السرعة والجدية لإنقاذها.
مضت كل هذه العقود؛ ولا تزال إسرائيل تمعن في إجراءاتها التعسفية ضد شعبنا، وفي تنفيذ خطواتها التآمرية لتهويد المدينة المقدسة ولتقويض المسجد الأقصى المبارك، ولا تزال تمعن في ارتكاب جرائم الحرب ضد الإنسانية دون وازع أو رادع. ولا تزال تمعن في تفريغ الأرض من أهلها لإحلال المغتصبين مكانهم.
إجراءات احتلالية تتلوها إجراءات، لكن خطوة واحدة لم تتقدم إلى الأمام على طريق إنهاء احتلال القدس وفلسطين أو نيل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية، لا بل ازدادت العقبات وتعقدت الأمور، وبدا أمل إقامة الدولة بعيداً جداً، تصاعدت الممارسات الإرهابية الاحتلالية، وتضاعفت الاغتيالات والاعتقالات للمدنيين العُزَّل، وصودرت أراضي المواطنين وهدمت بيوتهم ومساجدهم وأخرجوا من ديارهم.
الشعب الأعزل وحده
يجري ذلك كله على مرأى ومسمع المجتمع الدولي وهو ساكت صامت جامد، أصم أبكم لا يقدر على شيء أبداً، ولا يأتي بخير أبداً. حتى الأمة أصبحت متفرجة لا تحرك ساكناً، مع العلم أن لها دوراً فعّالاً مؤثّراً لو قامت به لغيرت وجه الأحداث ولقلبت المعادلة لصالحها وصالح حقها، لكن شيئاً من ذلك لم يكن.
فالشعب الفلسطيني وحده في الميدان، وحده في معركة الدفاع عن كرامة الأمة، مع أن قضية فلسطين والمؤامرات التي تتهدد المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة هي قضية الأمة كلها، لأنها تمس المشاعر الدينية لكل عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، ولأنها جزء من عقيدته ودينه، ففيها قبلته الأولى ومسجدها الثاني، وأرضها محور معجزة الإسراء والمعراج، وقرر القرآن الكريم إسلاميتها وقدسيتها من فوق سبع سماوات في آيات تتلى أبد الدهر، فقد قال تعالى فيه { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1، وقال تعالى مؤكداً انتصار أصحاب الحق على الاحتلال الغاشم وعودة المسجد الأقصى المبارك إلى أهله {… فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } الإسراء7، فالصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة فيما سواه، ولقوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى } رواه مسلم.
خطر حقيقي
أما المخططات التي تنفذ في مدينة القدس وفي محيط المسجد الأقصى المبارك فتدل بوضوح على خطر حقيقي يداهمه؛ مما يستوجب على أبناء الأمة جميعاً إجابة استغاثاتنا التي نطلقها صباح مساء، والقيام بأوجب الواجبات المفروضة عليهم في نصرتها والدفاع عنها وإنقاذها من براثن الاحتلال الغاشم.
لذلك فإنني أدعو أبناء شعبنا الصابر المصابر أن يواظبوا على شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للمرابطة والحضور الدائم فيه، ولفك الحصار الإسرائيلي المفروض على مدينة القدس بهدف عزلها عن محيطها الفلسطيني، والاستفراد بالمسجد الأقصى المبارك لتنفيذ المخططات التآمرية ضده بعيداً عن أعين الناس، فهذا واجب ديني ووطني يؤكد تمسكنا بحقنا في مدينتنا ومقدساتنا ورفضنا لاحتلالها وإجراءات تهويدها، ونطلب من كل من يستطيع منهم زيارتها والصلاة في مساجدها وكنائسها، لتأكيد هويتها وتعزيز علاقتهم بها وبمقدساتها وتكثير سواد أهلها ومؤازرتهم ودعم صمودهم لمواجهة مخططات تهويدها وإلغاء هويتها العربية والإسلامية وتفريغها من أهلها العرب الأصليين.
فالإجراءات التعسفية التي تفرضها سلطات الاحتلال على دخول مدينة القدس والحواجز التي تقيمها على مداخلها وطرقها وأبوابها لمنع وصول أبناء شعبنا الفلسطيني إليها؛ إنما هي عدوان صارخ على حق الفلسطينيين في ممارسة شعائرهم التعبدية، وتدخل في شؤونهم الدينية.
وإنني أؤكد مجدداً أن مدينة القدس عربية إسلامية وهي عاصمة الشعب الفلسطينية الأبدية السياسية والوطنية، وهي العاصمة الروحية للأمة كلها، وأن المسجد الأقصى المبارك بجميع ساحاته وأساساته وبناياته وأسواره وأبوابه وقبابه وفضائه وكل جزء فيه مسجد إسلامي خالص لاحق فيه لغيرهم من قريب أو بعيد، وأوجه من أرض الإسراء والمعراج نداء إلى منظمة التعاون الإسلامي بالتحرك الفوري للقيام بواجبها في إنقاذ مدينة القدس وحماية المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطر الذي يتهدده، واتخاذ المواقف والقرارات العملية الجادة للدفاع عنه.
أين لجنة القدس؟
وهنا أتساءل عن لجنة القدس برئاسة العاهل المغربي التي لم تنعقد منذ سنوات، فحسب بيانها التأسيسي هي المسؤولة عن تفعيل كل القرارات الصادرة لمصلحة القدس والتصدي لكل الإجراءات والقرارات التي تمس بمكانتها وبمقدساتها، وهي التي تستطيع تفعيل دور منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية وكل المؤسسات الإقليمية والدولية للتصدي لقرارات ترمب المتوقعة وإجراءات الاحتلال “الإسرائيلي” ضد المدينة المقدسة.
وأقول للمجتمع الدولي ومنظماته وهيئاته والرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي: كفاكم انحيازاً إلى جانب الجلاد ضد الضحية، وعليكم أن تتولَّوْا ممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل لوقف انتهاكاتها لحرمة المقدسات في فلسطين واعتداءاتها على حقوق الإنسان وإجراءات تهويد المدينة المقدسة أرض النبوات ومهد الحضارات ومهبط الرسالات لمخالفتها تعاليم الشرائع الإلهية والقوانين والمواثيق والقرارات الدولية.
لا يعمر فيها ظالم
هناك حقيقة تاريخية ثابتة: أن القدس وفلسطين لا يعمر فيها ظالم، فرُغم خضوعها للاحتلالات المتكررة، إلا أن التاريخ يسجل بشرف وتشريف قدرة أهلها العرب والمسلمين على تحريرها، ويشهد للأمة ولقادتها العظماء أنهم لم يصبروا على ضياعها وغزوها، بل هبوا لإنقاذها فجيَّشوا الجيوش وأعدوا العدة حتى حرروها من دنس الغزاة الغاصبين.
وهذا صلاح الدين الأيوبي يكتب ملحمته الرائعة “حطين” باستردادها من أيدي الفرنجة عام 1187م بعد اثنين وتسعين عاماً على احتلالها، ولما وقعت في يد الفرنجة ثانية استردها الملك الصالح نجم الدين الأيوبي عام 1244م بعد أحد عشر عاماً من احتلالها، ثم استعادتها الأمة من المغول على يدي المظفر سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في موقعة “عين جالوت عام 1259م. وهذا برهان آخر على صدق من قال إن الاستعمار مجرد جملة معترضة في حياة الشعوب، فإرادة الحياة والتحرير لديها حاضرة دائماً؛ وهي التي تحدد ساعة استدعاء هذه الإرادة بالثورة والمقاومة لنيل الحرية والكرامة.
قرارات باطلة
وختاماً إنني أؤكد أن قرار الإدارة الأمريكية ورئيسها ترامب بنقل سفارتها إلى مدينة القدس المحتلة وإعلان مدينة القدس عاصمة إسرائيل والشعب اليهودي هي قرارات باطلة لا قيمة لها، لأنها تتنافى مع تعاليم الشرائع السماوية وتخالف القوانين والمواثيق والقرارات الدولية التي نصت صراحة على أن القدس جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى وجوب انسحاب إسرائيل منها، فهذه ليست المخالفات الوحيدة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية ضد الأمة الإسلامية وضد شعبنا الفلسطيني وقضيته العادلة، بل إن تاريخها المعاصر حافل بالشواهد على ذلك.
وأؤكد أيضاً بان الأمة لن تسكت على ذلك وإن كان بين أبنائها من يتماهى مع هذه القرارات، فالقدس جزء من عقيدتها، ولن تفرط فيها لأنها تعلم إيماناً يقينياً بأن التفريط فيها هو تفريط بكل مقدساتها.
وأحذر الشعب الفلسطيني الأمين على مدينة القدس والقضية الفلسطينية الذي سطر عبر العقود الطويلة الماضية بأحرف من نور وبدماء الشهداء أسطورة الدفاع عن قضيته الفلسطينية العادلة وبالقلب منها مدينة القدس، أحذره أن لا يفتر في الدفاع عنها وان يفتديها بكل غالٍ ونفيس كما فعل الأخيار والشرفاء من أبناء الأمة، وأن لا يكون تحركهم مجرد رد فعل لأي إجراء او قرار من أيٍّ كان، فهو الذي يملك صناعة الحدث وتحريك الأمة بل العالم أجمع لأنه صاحب أعدل قضية في العالم، وهو الذي يعاني من أطول احتلال في هذا الكون.
وأطالب الأمة كلها بمساندة الشعب الفلسطيني في هذه المعركة، فهو يدافع عن كرامتها وشرفها وعقيدتها، وبالتسامي عن كل خلافاتها، وبحشد كل القوى والطاقات لتحريرها، وبإبقائها القضية المركزية في أولوياتها، فلا يكفي رفع الشعارات أو الإعلان عن الغضب لمواجهة اخبث مؤامرة دولية ضد القضية الفلسطينية ومدينة القدس المباركة، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران 200
المصدر: جريدة “الأمة” الإلكترونية بتصرف.