“إن الرجل الصالح يترك أثرًا في كل مكان ينزل فيه، ونحن نأمل أن يترك صديقنا أثرًا صالحًا في هذا البلد الجديد عليه”.. بهذه الكلمات نطق الأستاذ محمد الشرنوبي يوم أن همَّ الأستاذ حسن البنا بالسفر إلى الإسماعيلية لتسلم عمله هناك معلما، يوم الإثنين الموافق 16 من سبتمبر 1927م.
وبالفعل وضع حسن البنا هذه الكلمات نصب عينيه، فانطلق يشرح للناس حقيقة إسلامهم؛ فيجلو الغشاوة عنهم، وقدم الإسلام بصورة عجز عنها كبار رجال الأزهر الرسميون الذين امتهنوا العلم، ولم يدركوا حقيقته، فانفتحت له قلوب غلف، واتبعه شباب نضر، وزلزل أركان المستعمر؛ بل وقف في وجه المحتل الصهيوني الذي استغاث من ضربات شباب الإخوان في حرب 1948م، حتى صرخ اليهود من هذه الضربات التي دفعت حاييم هرتزوج (رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي) إلى أن يعبر عن ذلك في صحيفة جيروزاليم بوست في 25 سبتمبر 1978م، 22 شوال 1398هـ بقوله: إن ظهور حركة اليقظة الإسلامية بهذه الصورة المفاجئة المذهلة، قد أظهرت بوضوح أن جميع البعثات الدبلوماسية –وقبل هؤلاء جميعا- وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تغط في سبات عميق([1]).
حقيقة يهودية البنا
تسارعت الأقلام وفتحت الصحف أبوابها، وعلقت القنوات في برامجها على قضية أن حسن البنا من أصل يهودي مغربي، وأن أباه وأمه هاجرا من المغرب تحت نير ضربات الحرب العالمية الأولى، حتى إن اللواء عادل عزب -مسئول ملف النشاط المتطرف في جهاز الأمن الوطني، والمكلف بمتابعة جماعة “الإخوان” بأمن الدولة قبل ثورة 25 يناير 2011- قال في محاكمة الدكتور محمد مرسي، بتهمة التخابر مع دولة قطر: والد حسن البنا مغربي يهودي جاء إلى مصر، وعمل بإصلاح الساعات، وهي مهنة مقصورة على أبناء اليهود في ذلك الوقت”. وأضاف: “الإخوان جماعة ماسونية، وظهر ذلك في إطلاق اسم البنا رغم عدم وجود أحد من العائلة يحمل هذا الاسم([2]).
وليس ذلك فحسب؛ بل كتب الدكتور عبد الرحيم فارس أبو علبة كتاباً بعنوان “ماسونية حسن البنا”، وتحدث ثروت الخرباوي، وذكر أن الجماعات اليهودية في مصر قامت بتوفير المأوى والعمل له، والتحق والده بالعمل فى هيئة السكة الحديد المصرية في مهنة إصلاح ساعات الهيئة، وهي المهنة التي كان يحتكرها اليهود في مصر، كما قام اللواء حسام سويلم بكتابة دراسة ردد فيها هذا الكلام، بل بلغ الأمر حينما أقام فرج زكى غانم دعوى في محكمة القاهرة للأمور المستعجلة تحمل رقم 2642، طالب فيها بحل جماعة الإخوان ومنعهم من ممارسة العمل السياسي أو ممارسة طقوسهم الدينية في مصر بدعوى أن مؤسسها من أصل يهودي ([3]).
والغريب أن الجميع استندوا إلى مقال كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد في صحيفة الأساس في 2 يناير 1949م حول حسن البنا ويهودية عائلته، وأنه يهودي ماسوني جاء لتخريب الإسلام([4]).
بل إن مجلة الأزهر الشريف أعادت نشر مقال العقاد في عددها الصادر في شوال 1436هـ ، 2015م.
أين الحقيقة؟
استلفتت نظرنا هذه الاتهامات، خاصة أنها ظهرت مؤخراً، ولم يتطرق لها أحد على مدار عشرات السنين الماضية منذ وفاة حسن البنا حتى الآن، كما زاد الأمر أن من تحدثوا عن هذا الأمر لم يقدم واحد منهم دليلاً واقعياً يثبت يهودية عائلة حسن البنا، إلا الاستناد إلى لفظ البنا وهو من ألفاظ الماسونية، حسب ادعاءاتهم.. وهذه الافتراضات الظنية لا يؤخذ بها في المجالات العلمية إلا إذا استندت إلى دليل.
وممن يستشهد بكلامه في الرد على ذلك، الدكتور رفعت السعيد –وهو معروف بعدائه وخصومته مع الإخوان- حينما سئل عن هذه القضية، كان رده: هذا كلام حكاوي.. ولا صلة له بالتاريخ”، ويؤكد السعيد: “مسألة أن والده (البنا) أو أسرته يهودية مغربية أمر مستبعد تماماً، والمراهنة على قرينة لقب الأب ليس إلا جراء المهنة (الساعاتي) لا ينهض دليلاً علمياً بأي حال”([5]).
وأثناء تتبعي لجذور هذه القضية، عثرت على وثيقة من دفتر مواليد عام 1906م لمدينة المحمودية، ذكر فيه أن حسن البنا من مواليد المحمودية واسمه “حسن أحمد عبد الرحمن”، وأنه ولد يوم 17 أكتوبر وليس يوم 14، وأنه مسجَّل في قرية العطف بمديرية البحيرة آن ذاك عام 1906م في وثيقة رقم 86.
. وتوضح الوثيقة أن رقم الإمام البنا 320، وأن تاريخ ميلاده هو السابع عشر من أكتوبر، وقد سجِّل في الوثيقة اسم والده أحمد عبد الرحمن البنا، وجنسية المولود المصرية، وديانته المسلمة، وجهة سكنه، ونمرة تطعيم البنا التي تحمل رقم 15([6]).
وليس ذلك فحسب بل ذكر الأستاذ جمال البنا –المفكر الليبرالي والأخ الأصغر لحسن البنا- أن أخاه حسن هو البكر بين إخوته، وأنه ولد في صبيحة الأحد 14 أكتوبر 1906م الموافق 25 شعبان 1324ه، وهو الابن الأكبر للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، وذلك نظرًا لعمله في إصلاح الساعات، وهو مصري من قرية شمشيرة التابعة لمركز فوة (محافظة كفر الشيخ حاليا والمواجهة للمحمودية من الناحية الثانية للنيل، والذي ولد في سنة 1300ﻫ الموافق 1882م، حفظ القرآن الكريم في صغره، وتعلم في جامع إبراهيم باشا بالإسكندرية، وتعلم حرفة إصلاح الساعات وهو صغير، كانت له اتصالات كثيرة بعلماء الأزهر في عصره أمثال: الشيخ عمر خليفة المالكي الذي اشتهر بمالك الصغير، والشيخ أحمد طولون وغيرهم([7]).
وأمه هي أم السعد إبراهيم صقر من عائلة “أبو قورة من قرية شمشيرة –نفس قرية والده- وكان والدها يعمل تاجرًا للمواشي، وبحكم الوضع المنتشر -آنذاك- في ريف مصر لم تنل حظها من التعليم، لكنها اتصفت بالذكاء وحسن التدبير والفطنة([8]).
ولو نظرنا لاختلاف الروايات حول تاريخ مولده لن نجد خلافا؛ فربما ولد حسن البنا في 14 أكتوبر، وتم تسجيله في 17 منه.
قالوا عن البنا
هناك الكثير من المسلمين وغيرهم قابلوا حسن البنا، واستمعوا له، وتأثروا بفكره وكلامه، ومنهم من عبر عن ذلك بصدق وأمانة وتجرد، ومن هؤلاء:
روبير جاكسون حيث قال بعدما قابل البنا قبل أن ينتشر أمره ويقوى عوده وعود جماعته: “زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان([9]).
وتحت عنوان “اعرف عدوك”، نشرت مجلة حائط يصدرها الطلاب اليهود في الجامعة العبرية تعليقًا تحت صورة الإمام حسن البنا: “إن صاحب الصورة كان أشدَّ أعداء إسرائيل؛ لدرجة أنه أرسل أتباعه عام 1948م من مصر ومن بعض البلاد العربية لمحاربتنا، وكان دخولهم مزعجًا لإسرائيل لدرجة مخيفة([10]).
ومن العلماء المسلمين الذين شهدوا للأستاذ البنا الشيخ محمد مصطفى المراغي –شيخ الجامع الأزهر-؛ حيث قال: إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالا وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي، على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة([11]).
——
([1]) أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي، العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها –رسالة دكتوراه- مكتبة العبيكان – الرياض, 1998م، صـ 292.
([2]) موقع لكم المغربي، موضوع بعنوان ضابط مخابرات مصري أمام المحكمة: والد حسن البنا مغربي يهودي، 8/9/2015
([3]) صلاح أحمد نويرة: روزاليوسف، مقال بعنوان حسن البنا يهودي مغربي زرعته الماسونية لتأسيس الجماعة، 1 أغسطس 2013م.
([4]) عباس محمود العقاد، صحيفة الأساس، مقال بعنوان الفتنة الإسرائيلية، 2/ 1/ 1949م
([5]) موقع لكم المغربي، موضوع بعنوان ضابط مخابرات مصري أمام المحكمة: والد حسن البنا مغربي يهودي، 8/9/2015
([6]) وثيقة عبارة عن صفحة من دفتر أحوال المواليد لعام 1906م قرية العطف –محمودية- البحيرة
([7]) جمال البنا: خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه، ص21
([8]) محمد السيد الوكيل: كبرى الحركات الإسلامية، ص13،14.
([9]) روبير جاكسون: حسن البنا الرجل القرآني، ترجمة أنور الجندي، المختار الإسلامي، جريدة ” النيويورك بوست ” في 13 فبراير سنة 1946م.
([10]) مجلة يصدرها الطلاب اليهود في الجامعة العبرية في عددها الصادر في شهر يونيو سنة 1970م.
([11]) مجلة المنار – الجزء الخامس – المجلد 35 – صـ2 – غرة جمادى الآخرة 1358هـ / 18يوليو 1939م.