– أصبح العدو الأوحد لكل دول العالم هو الإرهاب لكن بشكل مختلف حسب التعريف الذي تراه كل دولة
– تعدى التصنيف بالإرهاب حدود الأمن القومي والدولي ليطال كل من يعارض أنظمة سياسية بعينها
– اختراق خصوصيات الناس والتنصت على اتصالاتهم وشؤونهم الخاصة لم يعد يثير الاشمئزاز لدى غالبية الحقوقيين
– التصنيف بالإرهاب أصبح يطال حركات تحرر تمارس عملها الوطني في مقاومة الاحتلال مثل “حماس”
– خطر رجوع العالم إلى مربع الدكتاتورية الفكرية وضياع قيم إنسانية محترمة أصبح وارداً بذريعة الإرهاب
بحضور أكثر من 500 خبير و80 وزيراً من 72 دولة، انعقد مؤتمر مكافحة تمويل الإرهاب في باريس نهاية أبريل الماضي تحت شعار “لا أموال للإرهاب”، حيث تحدث الرئيس الفرنسي ماكرون عن ضرورة العمل من كل دول العالم على مراقبة تمويل الإرهاب ووضع آليات لمنع هذا التمويل وتجفيف منابعه.
الملاحظ على هذا المؤتمر أنه اعتبر الأفكار المتطرفة جزءاً من التمويل الذي تتلقاه الجماعات الإرهابية، حيث يعتقد منظمو هذا المؤتمر والمشاركون فيه أن الإرهاب يبدأ من ترويج الأفكار المتطرفة وبثها بين الشباب، معتبرين أن هذا النوع من الأفكار هو أكبر ممول للإرهاب حيث تعمل على تزويد المنظمات الإرهابية بالعنصر البشري اللازم لمواصلة أعمالها الإرهابية.
لذلك، فإن المشاركين في المؤتمر وجهوا توصياتهم بمراقبة أكثر فاعلية للأنشطة الفكرية التي تنزع للتطرف ومعاداة الآخر وتستهدف ترويج العنف بين الشباب، وهو ما يمكن أن يشكل محوراً ضاغطاً على حرية الفكر والتعبير حيث تستطيع الكثير من الأنظمة الشمولية التذرع بهذه المسببات لكبح الآراء المعارضة لسياساتها أو تقييد حرية تشكيل الجماعات والجمعيات والأحزاب خاصةً في دول العالم الثالث.
سلاح دولي في وجه المعارضة
لقد أصبحت حروب مكافحة الإرهاب منذ سبتمبر 2001 تحمل الكثير من الأهداف بجانب الهدف الرئيس وهو مكافحة الإرهاب، وكما أعلن جورج بوش في تلك الفترة أن من ليس معي فهو مع الإرهاب، فإن القوى الغربية عملت دوماً على تصنيف غالب السياسات المعارضة لسياساتها بالإرهاب، ونظراً للحساسية المفرطة التي تميز هذا المصطلح فقد أصبح إقران أي مؤسسة أو فرد أو دولة به يعني صدور قرار بمسحه من الوجود دون البحث عن دليل أو قرينة أو محاكمة.
لقد أصبح لكل دولة تعريفها الخاص بالإرهاب حيث تقوم دول عدة بإصدار قوائم خاصة بها تُدرج فيها كل الشخصيات والمنظمات والمؤسسات والدول التي ترى فيها خطراً عليها في هذه القوائم وأصبح العدو الأوحد لكل دول العالم هو الإرهاب لكن بشكل مختلف حسب التعريف الذي تراه كل دولة لمن يشكل خطراً على نظامها السياسي.
وتعدت مسألة التصنيف بالإرهاب حدود الأمن القومي والدولي إلى أن أصبح تعريف الإرهاب يطال كل من يعارض أنظمة سياسية بعينها حتى ولو كانت هذه المعارضة سلمية أو عن طريق التظاهرات والاعتصامات ومن هنا بدأ تطور حالة الاستعداء للمُعارض عن طريق تصنيفه ضمن دائرة الإرهاب.
تقنين القمع والاضطهاد
لقد ساعد على ظهور تصنيفات ومسميات وقوائم إقليمية وحتى محلية للإرهاب نجاح الحملات الدعائية والترويجية التي أطلقتها الدول الكبرى منذ سبتمبر 2001 وإيجاد مبررات لكل الأعمال التي كانت في السابق تُصنف بأنها أعمال تتناقض مع القانون الدولي وحقوق الإنسان في مكافحة الإرهاب، فأصبح قتل الإرهابي دون القبض عليه أو محاكمته أمراً متاحاً ومستساغاً وغير مُدان حتى من منظمات حقوق الإنسان، كما أن اختراق خصوصيات الناس والتنصت على اتصالاتهم وشؤونهم الخاصة لم يعد يثير الاشمئزاز لدى غالبية الحقوقيين والناشطين كل ذلك تأثراً بالحملة الدعائية الضخمة التي نشطت بعد أحداث سبتمبر لمكافحة الإرهاب.
ولمكافحة الإرهاب أصبح بإمكان أجهزة المخابرات والشرطة وأجهزة مكافحة الإرهاب القيام بما كانت تقوم به أشهر الأجهزة القمعية في تاريخ البشرية كالجستابو والخمير الحُمر وغيرها دون أن تجد أي استياء أو إنكار من جماعات حقوق الإنسان ما دام عدوها الذي تستهدفه بهذه العمليات مُصنّفاً في قوائم إرهابية.
بل إن هذا التصنيف أصبح يطال حركات تحرر تمارس عملها الوطني في مقاومة الاحتلال، وتحت هذا المسمى تم تصنيف حركة “حماس” التي تقاوم الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية، لأن المصنف يرى في “حماس” عدواً لمصالحه وخطراً على مشروعه الإقليمي في المنطقة.
مؤتمر باريس حاول أن يكون محايداً بين قوائم الإرهاب الكثيرة التي يتم إعلانها من أطراف عدة وبمصوغات مختلفة وتحت مبررات كثيرة؛ فأشار إلى أن المنظمات الإرهابية التي يستهدفها المؤتمر هي “القاعدة” و”داعش”، ولكنه أيضاً فتح المجال على مصراعيه لكل مجتهد في إضافة من يريد إلى هذه المنظمات بدعوى التمويل الفكري والمالي؛ فقد أصبح كل من يروج لأفكار قد يعتمد عليها تنظيم “داعش” في تبرير أعماله الإرهابية قد يصبح ممولاً لتنظيم إرهابي بمادةٍ فكرية حتى ولو أعلن أنه يختلف مع “داعش” ولا يوافقها ما تقوم به.
هذا الأمر هو ما دفع بعض الحكومات في المنطقة إلى التفكير جدياً في تغيير جذري في المناهج التعليمية والإعلامية في محاولة يائسة للهروب من قبضة التصنيف تحت مسمى التمويل الفكري للإرهاب.
“تسونامي” التصنيف بالإرهاب
إن ما يجري اليوم في المنطقة من نشاط إعلامي وعمل حثيث لتغيير المناهج والضغوط التي تتعرض لها المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية والسعي المحموم لتأسيس مراكز مكافحة الفكر المتطرف ومحاولة إعادة صياغة الحياة العامة لشعوب المنطقة بما يتوافق مع سياسات الانفتاح وتغيير السلوك جميع ذلك يصب في إطار الخوف من تسونامي التصنيف بالإرهاب وتمويل الإرهاب وهو السيف الذي بدأت أوروبا وأمريكا ترفعه في وجوه شعوب وحكومات المنطقة.
فقد قالت شبكة “يورونيوز”: “إن السلطات الفرنسية أدرجت أكثر من 78 ألف شخص يشكلون “تهديدات أمنية” إلى قاعدة بيانات تهدف للسماح للشرطة الأوروبية بمشاركة وتبادل معلومات بشأن أخطر سكان القارة.
ويعد العدد أكبر بكثير من القوائم الأمنية الخاصة بالمشتبه بهم في قضايا الإرهاب والتطرف التي ضبطتها الدول الأوروبية مجتمعة. وقد أدت هذه البيانات إلى طرح أسئلة بشأن ما إذا كان يتم إساءة استخدام هذه القاعدة، مع تطبيق عدة بلدان لمعايير مختلفة”.
بالفعل ما سيحدث مع هذه القوائم التي تضعها الدول باستخدام معايير وتصنيفات وتعريفات مختلفة للإرهاب أنها ستتضخم خاصةً مع التعاون الذي نشأ بين الأجهزة الأمنية لهذه الدول بحيث تصبح قوائم كل دولة جزءا من قاعدة بيانات الدول الأخرى بسبب التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب وهو ما نصت عليه توصيات جميع المؤتمرات التي عُقدت في هذا الشأن.
إن خطر رجوع العالم إلى مربع الدكتاتورية الفكرية وضياع قيم إنسانية محترمة كاحترام حرية المعتقد وحرية التعبير وحرية إنشاء التجمعات والأحزاب والجمعيات أصبح وارداً بعد أن أصبح بعبع الإرهاب يوفر الذريعة المناسبة لإسكات الناس ومنعهم من الحديث عن هذه الحقوق، وإلا سيتم تصنيف كل من يطالب بمثل هذه الحقوق تحت هذه التصنيفات.
إن ما تقوم به حكومات العالم بتوسعة دائرة الاشتباه في المتهمين واتخاذ إجراءات احترازية ضد أشخاص ومؤسسات مصنفين وفق تعريفات ومعايير تخضع لمصالح حكومات وأنظمة سياسية هي عبارة عن خطوات ارتدادية عن كل المكاسب التي حققتها الإنسانية في إطار احترام حقوق الإنسان، وإن عدم شعور غالبية المجتمعات الإنسانية بهذا الخطر قد يكون نابعاً من أن هذ التصنيفات ما زالت تطال في غالبيتها أتباع الديانة الإسلامية أكثر من غيرهم وهم الطرف الأضعف والأقل تأثيراً.
فرغم ما تقوم به مجموعات يهودية في فلسطين من أعمال وسلوكيات ومناهج فكرية تعتمد على إقصاء الآخر واحتقاره وتبرير العنف ضده وهو ما قد يُصنف على أنه إرهاب إلا أن هذه المجموعات ظلت على الدوام خارج دوائر التصنيف الغربية للإرهاب ولم نشاهد في السابق أي إدراج لأعمال يقوم بها متطرفون يهود تتسم بالكراهية والعنف في قوائم الإرهاب لأي دولة غربية أو حتى عربية.
إن الخوف أن تصبح مكافحة الإرهاب ذريعة وشماعة لتنفيذ مشاريع دولية وإقليمية ومحلية الغرض منها فرض السيطرة وحماية المصالح وليس مجرد حملة لمكافحة الإرهاب العالمي.
إن الوصول إلى مثال هذا المستوى من الكذب السياسي يجعلنا نعيد التفكير في أن من يستعمل الإرهاب كمبرر لتنفيذ مشاريعه في السيطرة وتحقيق المصالح ربما لن يتوانى عن صنع هذا الإرهاب وتمويله سراً ليحصل على المبرر ويمتلك الأسباب.