اعتنى فقهاء الإسلام بالتأليف في علم الفقه أكثر من علم الإفتاء، فلم ينل علم الإفتاء في التصنيف والتأليف ما ناله كثير من العلوم كالفقه والتفسير والعقيدة وأصول الفقه وعلوم العربية وغيرها من علوم الإسلام.
والسر في ذلك أن الإفتاء يلتصق بواقع الحياة وحوادث الناس اليومية وما يستجد له من أحوال وعوارض، فلم يكن قصد المفتي حين يقول فتواه أو يحررها أن تكون مساراً للتدريس أو القراءة والاطلاع، إنما قصده بيان حكم الله تعالى في النازلة للسائل الذي توجه له بالسؤال.
أما الفقه وغيره من العلوم، فقد كان علماً يدرسه العالم لطلابه، ويدون الطلاب ما يكتبه الشيخ، أو يجلس بعض العلماء للتصنيف والتأليف حتى يبقى مرجعاً لطلاب العلم في فقه المذهب الواحد أو المذاهب المتعددة، أو فيما يكتبونه من مسائل في بعض القضايا الفقهية، ومن هنا كان علم الفقه هو أقرب للتعريف والمعرفة، وعلم الإفتاء أقرب لإسعاف السائلين عن بيان النوازل بكشف ما يظنه المفتي أن ذاك حكم رب العالمين.
غير أن هذا لم يمنع عدداً من العلماء أن يصنفوا في الفتوى، ويكتبوا لنا عدداً من الكتب في الفتوى، أو يجمع تلاميذهم لهم الفتوى بعد تحريرها.
كيفية الاستفادة من تراث الفتاوى:
لا شك أن تراث الفتوى واجب الانتفاع به، فلا يسع من يتصدى للإفتاء الإعراض عما كتبه الأقدمون في الفتاوى، سواء أكانت فتاوى فردية، أو فتاوى جماعية، سواء تعلقت الفتوى بآحاد الناس أم بظواهر المجتمع.
وإن الأهم في النظر إلى تراث الفتاوى كيفية الاستفادة منه، حتى يكون لذلك النظر أثر إيجابي في عملية الإفتاء في القضايا المعاصرة.
ومن وسائل الاستفادة من تراث الفتاوى ما يلي:
أولاً: الاطلاع على ما كتب في تراث الفتاوى:
الناظر إلى تراث الفتاوى من حيث التصنيف يجد أنها متنوعة، فمنها ما هو فتاوى لآحاد من الناس أجاب عنها آحاد المفتين، ومنها ما كان فتاوى جماعية حيث أفتى بها جماعة من المفتين، ولكن ذلك حصل في فترة متأخرة، وذلك من جهة التصنيف، أما من جهة وجود الإفتاء الجماعي فهو قديم ولد مع الإفتاء الفردي، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حلت بهم نازلة اجتمع لها فقهاؤهم وأبانوا فيها حكم الله، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وهو ما تولد عنه الإجماع.
كما صنف العلماء في الفتاوى التي تتعلق بالمسائل القديمة، ومنهم من أفرد التصنيف عن نوازل الفتاوى والمستجدات في عصرهم، وأفرد البعض التصنيف عن آداب وأحكام الفتوى، وهو ما يدخل ضمن تصنيف أصول الفقه.
النوع الأول: الفتاوى الفردية: من المصنفات في الفتاوى التراثية التي تمثل فتاوى الأفراد في المسائل غير المستحدثة، «الفتاوى الكبرى» للإمام ابن تيمية، وله أيضاً «مجموع الفتاوى»، و»فتاوى السبكي»، و»فتاوى قاضي الجماعة» لابن سراج الأندلسي، و»الحاوي للفتاوى» للسيوطي، و»فتاوى الرملي»، و»الفتاوى الفقهية الكبرى» لابن حجر الهيتمي، و»فتاوى الخليلي على المذهب الشافعي»، و»فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك» للشيخ عليش.. وغير ذلك.
النوع الثاني: الإفتاء الجماعي: مما يمثل الإفتاء الجماعي الفتاوى الهندية، التي قام بتصنيفها علماء الهند برئاسة الشيخ نظام الدين البلخي، وهي تعد من بواكير الفتاوى الجماعية، ويعدها البعض من أوائل العمل الموسوعي بخلاف ما كان العمل عليه من غلبة الفتاوى الفردية.
النوع الثالث: فتاوى النوازل: كما صنف الفقهاء فيما يتعلق بالنوازل التي نزلت بعصرهم وحلت ببلادهم، فأبانوا حكم الله تعالى فيهم، وصنفوا فيها كتباً ومؤلفات عديدة، من ذلك: «مجموع نوادر المسائل المدلل بالدلائل»، الشهير بـ»فتاوى النوازل في الفقه الحنفي» لأبي الليث السمرقندي، طبع باهتمام عزيز الرحمن بانيزتي، «عيون المسائل» لأبي الليث السمرقندي، «أنفع الوسائل إلى تحديد المسائل» لإبراهيم بن عليّ العرسوسي، «واقعات المفتين» لعبدالقادر بن يوسف الشهير بعبد القادر أفندي، «الفتاوى الخيرية لنفع البريّة» لخير الدين الرملي بن أحمد بن عليّ، «مذاهب الحكام في نوازل الأحكام» للقاضي عياض وولده محمد، «ضياء السياسات وفتاوى النوازل مما هو من فروع الدين من المسائل» لعبدالله بن محمد بن فودي.. وغير ذلك.
النوع الرابع: التصنيف في أدب الفتوى: كما صنف البعض في آداب وأحكام الفتوى، وذلك من الناحية الأصولية، وتعد تلك الكتب ضمن كتب أصول الفقه، وذلك أن من موضوعات أصول الفقه الحديث عن الاجتهاد والتقليد والإفتاء، وبيان الفرق بين الفتوى والحكم الشرعي والحكم القضائي وصفات المفتي ومؤهلاته، وواجباته عند الفتوى، والآداب التي يستحسن مراعاتها في الفتوى، وما يتعلق بالمستفتي من آداب وأحكام، ولا يخلو كتاب أصول فقه من تخصيص باب للفتوى، لكن هناك من أفرد الحديث عن الفتوى بالتصنيف، من ذلك: «أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح الشافعي»، «أدب الفتوى والمفتي والمستفتي» للإمام النووي الشافعي، «وصفة الفتوى» لابن حمدان الحنبلي، «تعظيم الفتيا» لابن الجوزي، وغيرها من المصنفات في أدب الفتوى.
ثانياً: الاستفادة من الاجتهادات السابقة من خلال الإجابات:
لأهل العلم الاستفادة من تراث الفتاوى من خلال إجابات المفتين، وما يمكن أن يحصل من التشابه بين الفتاوى التراثية والأسئلة التي يتعرض لها أهل العلم؛ فربمــا ظن المفتي أنه لــم يُسبق في اجتهــاده، وقد سبقه غيره ممن عاصره، بل ممن سبقـه، وقـد قال ابن عبد البر: «لا يكون فقيهاً في الحادث من لم يكن عالماً بالماضي».
ثالثاً الوقوف على مناهج المفتين:
وذلك من خلال النظر إلى فتاويهم، كيف يجيبون على الفتوى، وما طريقتهم في الإجابة، وما مصادرهم، ومدى الاستدلال في فتاويهم، وكيف يوجهون السائل، وهل يقفون عند حد الإجابة وبيان الحكم الشرعي، أم للفتوى وجوه للإصلاح والإرشاد والتوجيه، والوقوف على كيفية فهم الواقع والفقه فيه، وهو ما أشار إليه الإمام ابن القيم فقال: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهماً: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله».
رابعاً: التحلي بأخلاق المفتين:
من خلال معرفة سلوكهم في الفتوى، فقد نص العلماء على أنه يجب على المفتي أن يتجرد في الفتوى، ويحرم عليه أن يفتي بالتشهي أو التخير، فلا يتخير من آراء الفقهاء ما يوافق هواه، بل يجعل الاجتهاد هو معيار الاختيار، ولا يؤثر هذا في إفتائه للناس، فإن كان لشخص عنده منزلة أفتاه وتخير له بما يحب.
والتجرد هنا يعني التوسط في الفتوى، بحيث لا يدفعه التشهي في أن يفتي بالإباحة مقابل حرمة، ولا أن يضيق على الناس خشية التشهي، بل يجرد قلبه لله تعالى حين الإفتاء، ويفتي بما يغلب على ظنه أنه الصواب الذي يقابل الله تعالى به.
ولا يجوز للمفتي أن يلفق بين المذاهب في الفتوى، فيفتي مثلاً بجواز الزواج بدون موافقة الولي وبدون الشهود ملفقاً بين المذهب الحنفي والمذهب المالكي.
كما أنه مما يلاحظ في الإفتاء المعاصر أنه كثر فيهم حكاية الخلاف بدون إفتاء، فحكاية الخلاف ليست إفتاء، وليس للمفتي أن يقتصر في فتواه على حكاية الخلاف، بأن يقول: «فيها قولان»، أو «وجهان»، من غير ترجيح، فكأنه لم يفتِ بشيء.
وضرب الأقدمون مثلاً بهذا في امرأة جاءت إلى أبي بكر بن داود، فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة، لا هو ممسكها ولا هو مطلقها؟ فقال أبو بكر: اختلف في ذلك أهل العلم، فقال قائلون: تؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على التطلب والاكتساب، وقال قائلون: يؤمر بالإنفاق، وإلا يحمل على الطلاق، فلم تفهم المرأة قوله فأعادت السؤال، وقالت: رجل له زوجة، لا هو ممسكها ولا هو مطلقها؟ فقال: يا هذه، قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبتك، ولست بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي، انصرفي؛ فانصرفت المرأة ولم تفهم جوابه.
فقد ابتعد ابن داود عن منهج الفتوى، وكل مُفتٍ قال في موضع الخلاف يرجع لرأي الحاكم، فإنه ما أفتى، وصنع كما نقل عن أبي حامد محمد بن يونس أنه سئل في مسألة فكتب «إن فيها خلافاً»، فقال له الحاضرون: فكيف يعمل المستفتي، فقال: يتخير له القاضي أحد المذهبين، وهو كلام فاسد؛ لأن الحاكم قد لا يكون أهلاً للفتوى.
كما أن من الاستفادة من منهج التراث في الفتوى أن يحرم على المفتي أن يتتبع الحيل المحرمة والمكروهة، وهو مما شوهد في عصرنا، وليس له تتبع الرخص لمن أراد نفعه؛ فإن تتبع ذلك؛ فسق وحرم استفتاؤه وإن حسن قصده، لكن يجوز له ذلك في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخلص المستفتي بها من حرج جاز، كما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع تمر رديء بدراهم ثم يشتري بالدراهم تمراً أجود، حتى يتخلص من الوقوع في الربا.
وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة، و»أحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم».
خامساً: مراعاة الواقع:
على الفقيه أن يراعي واقعه وزمانه، ولا ينقل تراث الفتاوى الذي روعي فيه زمان الفتوى كما هو دون مراعاة لاختلاف الزمان والمكان، فإنه كما نص الفقهاء، قال ابن القيم: «ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم».
سادساً: الاجتهاد الجديد:
لا يشترط في الإفتاء المعاصر أن يجد فيه المفتي بغيته، بل ربما يقف على مسائل ليست في تراث الفتاوى، فإن كان من أهل الاجتهاد في الفتوى أعمل آلة الاجتهاد دون النظر إلى تراث الفتاوى، يقول ابن القيم: «ومن له مباشرة لفتاوى الناس يعلم أن المنقول وإن اتسع غاية الاتساع فإنه لا يفي بوقائع العالم جميعاً، وأنت إذا تأملت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة، ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب، ولا لأتباعهم.
سابعاً: عدم أخذ العوام من تراث الفتوى:
إن كان دور الفقهاء المجتهدين الاستفادة من تراث الفتاوى، فإن العوام يقتصر دورهم على الاطلاع والقراءة دون التنزيل على أحوالهم، فلا يحل لعوام الناس وغير المتخصصين النظر في هذه الفتوى للعمل بها؛ لأن لها خصوصية، كما أنه ليس أهلاً لإفتاء نفسه، بالإضافة إلى أن الفتوى لها خصوصية للسائل والزمان والمكان والحال.
____________________
(*) دكتوراه في الشريعة الإسلامية.