دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء 8/ 10/ 2019م إلى “معركة دون هوادة” في مواجهة ما سماه “الإرهاب الإسلامي”، في أثناء مشاركته مراسم تكريم أربعة من عناصر من شرطة باريس قُتلوا على يد زميل لهم قيل: إنه اعتنق الإسلام قبل عشر سنوات وتبنى أفكاراً متطرفة.
ودعا ماكرون الفرنسيين إلى التصدي لـ”الوحش الإسلامي” عبر “مجتمع يقظ”، و”التكاتف” بعد هذا الحادث غير المسبوق داخل مديرية يفترض أنها أحد رؤوس حربة أمن الدولة.
يبدو الرئيس ماكرون مشغولاً بمكافحة الإسلام ومقاومته ليس من أجل ما يسمى قضية الإرهاب، ولكنه التكوين العنصري القائم على الكراهية والتعصب والاحتقار الذي يتحرك من خلاله الرئيس الفرنسي، وصار ثقافة عامة لدى كثير من الفرنسيين تجاه الإسلام والمسلمين، وكان الأولى به أن يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء مقتل الشرطيين الأربعة، ودوافع القاتل الذي تمت تصفيته في الحال.
قبل شهور نقلت “يورونيوز” مع “رويترز” (25/ 4/ 2019م) أعلن ماكرون بمناسبة انتهاء “النقاش الكبير” في فرنسا بعد مظاهرات السترات الصفراء، أن “الإسلام السياسي” كما سماه، يمثل تهديداً للجمهورية الفرنسية ويسعى للانعزال عنها، وأعرب عن رغبته في تعزيز المراقبة على عمليات التمويل القادمة من الخارج، وقال: “لا ينبغي علينا أن نحجب أعيننا عن الحقائق؛ نحن نتحدث عن أناس أرادوا باسم الدين مواصلة مشروع سياسي وهو الإسلام السياسي الذي يريد أن يحدث انقساماً داخل جمهوريتنا”؛ أي إن المسألة لا تتعلق بما يسميه الإرهاب الإسلامي، لكنها تتجاوزه إلى ما يسميه الإسلام السياسي؛ أي الإسلام، لأنه لا يوجد إسلام سياسي وآخر غير سياسي، فالإسلام كله سياسة بالمفهوم العريض.
وقبل أكثر من عام أوردت “سكاي نيوز” (19/ 7/ 2018م) ما قاله ماكرون: إنه “لا يوجد أي سبب على الإطلاق لكي تكون العلاقة بين الجمهورية والإسلام صعبة”، مؤكداً أنه “اعتباراً من الخريف سيتم وضع إطار وقواعد” لتسيير شؤون المسلمين في فرنسا.
وقال ماكرون في كلمة أمام البرلمانيين المجتمعين آنئذ في فرساي: “اعتباراً من الخريف سنوضح هذا الوضع، عبر منح الإسلام إطاراً وقواعد ستضمن بأن يمارس في كل أنحاء البلاد طبقاً لقوانين الجمهورية، سنقوم بذلك مع الفرنسيين المسلمين ومع ممثليهم”.
وأوضح ماكرون بأن ثمة “قراءة متشدّدة وعدائية للإسلام(؟)، ترمي إلى التشكيك بقوانيننا كدولة حرة ومجتمع حر لا تخضع مبادئهما لتعليمات ذات طابع ديني”.
وكان ماكرون قد أعلن في فبراير 2018م أنه ينوي “وضع أسس لتنظيم” ثاني ديانة في فرنسا، حيث يقدر عدد المسلمين فيها بستة ملايين، وعدد دور العبادة بـ2500.
وفي نهاية يونيو، أعلنت الحكومة إطلاق اجتماعات في المناطق، ترمي إلى وضع إطار للنشاطات ذات الطابع الإسلامي وسبل تمويلها.
واضح أن الرئيس الفرنسي مشغول بالإسلام أكثر من المسلمين، ومهتمّ بالتخطيط لمحاصرته وتفريغه من محتواه وفقاً لقوانين الجمهورية الفرنسية، والقانون الصادر عام 1905م الذي يقنن لما يسمى العلمانية، وخطيئة ماكرون كما يقول بعض المحللين لا تتمثّل في استخدام تعبير “الإرهاب الإسلامي” الذي لا ينطوي على نوازع عنصريّة فقط، وإنّما التّحريض أيضًا على الديانة الإسلاميّة، وملايين المُواطنين الفِرنسيين الذين يعتنقونها، ويتّصفون بالاعتدال، ويُدينون كُل من يرتكِب جرائمه، أيّ الإرهاب، بغضِّ النّظر عن دينهِ وأصلِه.
بالطبع لا مجال هنا للحديث عن التسامح والمحبة وقبول الآخر المسلم، إنها عملية حصار وتشهير، وإجبار كتلة ضخمة من مسلمي فرنسا لقوانين متعسفة خاصة بهم وحدهم، وإن بدت في صيغة عامة.
يذكر التاريخ أن الحملات الصليبية انطلقت من سانت مونت كلير في فرنسا، بتحريض البابا أوربان، وقيادة بطرس الحافي عام 1095م، وخطاب الحملة مليء بالأحقاد والكراهية والتعصب والرغبة الدموية في القضاء على المسلمين والإسلام.
ومواقف فرنسا من القضايا الإسلامية مشحونة بهذه المشاعر التي تعمي أبصار قادتها عن رؤية الحق والحقيقة، أو إنها تراهما وتتغافل عنهما، لقد شاركت فرنسا مع دول غربية في جرائم يصعب حصرها في هذه السطور، تذكر مجازرها في الجزائر على مدى 130 عاماً وقتل أكثر من مليون شهيد جزائري، ومذابحها في تونس والمغرب وسورية ولبنان، وأخيراً في رواندا وليبيا ومالي وأفريقية الوسطى، ومشاركتها في قتل مئات الألوف مع أمريكا وبريطانيا في أفغانستان والعراق، وقبل ذلك حملتها الدموية بقيادة السفاح نابليون على مصر والشام 1798م، وقتلها لسُبْع الشعب المصري (300 ألف مصري حيث كان تعداد السكان حينذاك مليونين ومائة ألف تقريباً)، ناهيك عن عمليات نهب الثروات تحت ذرائع مختلفة.
هناك إرهاب يقوم به النصارى والبوذيون والهندوس واليهود، ولكن الرئيس ماكرون لا يستطيع أن يتحدث عن الإرهاب النصراني الذي يأتي بجيوشه وطائراته وقاذفاته ومدافعه ومدرعاته، ويقتل مئات الألوف من المدنيين العزل في بلاد المسلمين التعساء، والرئيس ماكرون لا يحب أن يتكلم عن الإرهاب الهندوسي الذي يقتل المسلمين في الهند وسيلان وكشمير، ولا يريد أن يشير إلى الإرهاب البوذي ضد المسلمين الروهنجيا، ومسلمي الأويجور، وبالطبع لا يجرؤ ماكرون على الإشارة إلى الإرهاب اليهودي الذي يتسلى جنوده بقتل الفلسطينيين في الطرقات، واعتقالهم، ويقنن ليهودية فلسطين المحتلة التي لا تتسع في منظوره الدموي لغير اليهود.
الرئيس ماكرون يعلن الحرب على الإسلام وليس ما يسميه الإرهاب لإسلامي، ويقف وزير داخليته كاستانير ليحدد أمام عدد من النواب “شكل “المتطرف الإسلامي”(!)، فيقول: “هناك مجموعة من العناصر التي يمكن من خلالها معرفة المتدين المتطرف (يقصد المسلم المطلوب الإبلاغ عنه)، منها: تغير في التعامل مع محيطه الاجتماعي، وإن كان يقبل ثم أصبح لا يقبل، هل يقبل إقامة علاقات مع النساء أم لا، وهل يقيم الصلوات بانتظام؟”، وانتقد “الممارسات الدينية الصارمة في رمضان”.
وأضاف كاستانير أن “من بين العلامات والمؤشرات على التطرف والراديكالية أن يكون الشخص ملتحياً”(!)، وقد ردّ عليه عضو البرلمان الفرنسي من أصل مغربي مجيد الكراب ساخراً: “أنت تتحدث عن كون اللحية علامة على التطرف وأنا ألاحظ أنك نفسك لديك لحية!”.
بعد كلام الوزير أصبح وسم (هاشتاج) “أبلغ عن مسلم”، أكثر تداولاً في فرنسا خلال ساعات حيث تفاعل معه عشرات آلاف، وحفل بالسخرية المريرة في مواجهة التعصب المقيت الذي كشف عنه ماكرون ووزير داخليته.
قال أحد الفرنسيين في تغريدة بالهاشتاج: “لاحظت في الحمامات في مكان عملي قنينات مياه وهي تقاليد غير فرنسية أتى بها الإسلاميون، كونوا حذرين ولا تشربوا من هذه الزجاجات!”.
وقال أحد المغردين مخاطباً وزير الداخلية: “سيد كاستانير، هل يمكنني التبليغ عن الإمام عبدالعلي مأمون، هو رجل ملتح يغني بلكنة مارسيليا قائلاً: الله أكبر وتحيا فرنسا؟”.
وقالت أخرى: “أنا أقرأ القرآن باللغة الفرنسية، ولا آكل لحم الخنزير، لذا أنا أبلغ عن نفسي”، وقالت غيرها ساخرة: “أريد التبليغ عن جارتي التي يطلق عليها أولادي ماما جوزيت التي تحب الكسكسي والحلويات الشرقية وتعجبها ملابسي العربية، أظن أنها أصبحت راديكالية”، وطالبت إحداهن المسلمين الفرنسيين بعدم الشعور بالعار من ممارسة الشعائر الدينية.
لقد كانت فرنسا التي تضم أكبر عدد من المسلمين في أوروبا أول دولة أوروبية تحظر الحجاب الكامل في الأماكن العامة في عام 2011م، وطبقت العلمانية بصرامة على المسلمين وحدهم دون بقية الديانات.
والسؤال الآن: هل تصريحات ماكرون ووزيره من أجل الانتخابات القادمة طلباً لأصوات اليمين الصليبي المتطرف؟ وهل يتجاهل ماكرون أن معظم الجماعات الإرهابية صناعة مخابراتية غربية وأمريكية لم يعد في الإمكان السيطرة عليها كما اعترفت هيلاري كلينتون؟ وهل يتجاهل ماكرون أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يرفضون الإرهاب المصنوع غربياً، ويعدون أنفسهم ضحايا له قبل الآخرين، وأنه وسيلة استخباراتية غربية لتدمير بلدانهم؟
إذا كان ماكرون ومن معه يجهرون بهذه المشاعر السلبية العدوانية تجاه الإسلام، فإن الأسى يملأ الضلوع حين يقرأ لبعض من يسمونهم مثقفين عرباً كلاماً مماثلاً عن الإرهاب الإسلامي، والتطرف الإسلامي والتشدد الإسلامي، دون أن يذكر فضيلة إسلامية واحدة للإسلام والمسلمين!