محمد محمود
التبرعات: جمع تبرع، وتبرع بالعطاء: أعطى من غير سؤال، أو تفضل بما لا يجب عليه، قال الزمخشري: كأنه يتكلف البراعة فيه والكرم.
وعقد التبرع يمكن تعريفه اصطلاحاً بأنه: بذل المكلف مالاً أو منفعة لغيره في الحال، أو المآل بلا عوض بقصد البر والمعروف غالباً.
وعلى هذا يكون عقد التبرع: هو العقد الذي يقوم التمليك فيه على التبرع من غير مقابل، وإنما ألزم الشخص نفسه به دون طلب عوض عما يدفعه إلى الطرف الآخر.
وبضدها تتميز الأشياء، فعقد التبرع يقابله عقد المعاوضة.
وهو: التزام من كلا طرفي العقد، ويقوم على عوض ومعوض عنه ومماكسة، حيث يقصد منه الكسب والمنفعة والربح، بخلاف عقود التبرعات إذ يقصد منها الإرفاق والإحسان.
تقسيم العقد باعتبار العوض
العقد من حيث وجود العوض، أو عدمه ينقسم إلى نوعين: عقد معاوضة، وعقد تبرّع.
فعقد المعاوضة مثل: عقد البيع بأنواعه من مقايضة وسلم وصرف، وعقد الإجارة والاستصناع -وهو عقد مركب من البيع والإجارة- وعقد المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والشّركة ونحوها.
وعقد التّبرّع مثل: الصدقة، والهبة، والعاريّة، والوديعة، والوكالة، والرّهن، والوصيّة ونحوها.
أنواع عقود التبرع
من خلال التعريف السابق لعقود التبرع يتبين لنا أن منها ما فيه تبرع بعين كوهبتك سيارتي هذه، ومنها ما فيه تبرع بمنفعة مثل أعطيتك بيتي لتسكنه مدة شهر، ومنها ما يكون حالاً مثاله: أعطيتك سيارتي هذه لتتصرف فيها من الآن، ومنها ما يكون مؤجلا كالهبة المعلقة على حصول شيء أو زمن ما، مثل لفلان من راتبي ألف ريال آخر الشهر. ومنها ما يكون مضافاً إلى ما بعد الموت كالوصية.
الفرق بين الصدقة والهدية والعطية
من قصد بالعطية ثواب الآخرة فقط فعطيته على هذا الوجه، صدقة، وإن قصد بالعطية الإكرام أو التودد أو المكافأة فعطيته تسمى هدية، فإن لم يقصد بالعطية شيئا مما ذكر فتكون هبة وعطية ونحلة، فالألفاظ الثلاثة متفقة معنى وحكما، ولفظ العطية يعم جميعها لشمولها لها، وإن كان بعضهم يصطلح على تخصيص العطية: بالتبرع في مرض الموت المخوف.
وأما الوصية: فهي التبرع بالعطية بعد الوفاة، وما كان من التبرع في مرض الموت أو وصية بعد الموت فهذا مقيد بثلث مال المتبرع ليس له تجاوزه، ولا يكون للوارث، وأما ما كان من التبرع في حال الصحة والرشد فهذا غير مقيد بوارث أو غيره، وليس مقيدا بثلث أو نحوه، بل قد يشمل كل مال المتبرع، سواء أكان: صدقة أو هدية أو هبة، على ملاحظة ما ذكر من التفريق بينها اصطلاحا.
التبرع مرغب فيه شرعاً
عقد التبرع غير لازم ابتداء لكن الشارع قد حث على فعل الخير، ورغب فيه.
والتبرع بأنواعه المختلفة من الخير، وعلى هذا فالتبرع مندوب إليه شرعاً من حيث الأصل قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، فندب إلى التعاون على البر، وهو كل معروف يقدم للغير سواء أكان بتقديم المال أم المنفعة.
ولأن مبناه على الإحسان الصِّرف، فقد حث الشارع على التوسعة فيه بكل طريق، ولو اقتضى عقده غررا أو جهالة، كمن وهب دينه الكائن على مماطل أو جاحد لغيره فالهبة صحيحة، ولو كان الحصول على الدين غير متيقن ولا مقدور للموهوب له؛ لأن العقد عقد تبرع، والمدين قد يرجع عن مماطلته وظلمه، ويدفع الدين للموهوب له، فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن فاته ولم يجده، لأنّه لم يبذل في مقابله شيئاً، فاغتفر ما فيه من الغرر، ولا يصح ذلك في عقد المعاوضة فبيع المغصوب لغير الغاصب غرر لا يصح . ونص المالكيّة: على أن الغرر في الهبة لغير الثّواب جائز، ولهذا لو وهب رجل لآخر ما يرثه من فلان، وهو لا يدري كم هو؟ أسدس أو ربع فذلك جائز.
من الفروق بين عقد التبرع وعقد المعاوضة
1- ذكر التسولي في شرح التحفة ما يفيد وجوب الإشهاد في عقود التبرعات كالوقف، والهبة، والوصية، وكذلك كل ما كان من غير عوض كالتوكيل والضمان ونحوهما، فالإشهاد في هذه شرط صحة.
2- الالتزامات التي تنشأ من عقود التبرعات كالقرض والهبة والعارية والوصية، يستحب الوفاء بها ولا يلزم إجمالا، فالوصية مثلا يجوز الرجوع فيها ما دام الموصي حيا.
وفي العارية والقرض يجوز الرجوع بطلب المستعار وبدل القرض في الحال بعد القبض، ولو مؤجلا عند غير المالكية، فقد قال الجمهور: إن المقرض إذا أجل القرض لا يلزمه التأجيل، وله المطالبة به متى ما شاء؛ لأنه لو لزم فيه الأجل لم يبق تبرعا.
بينما الالتزامات الناشئة عن عقود المعاوضات يجب الوفاء بها من حيث الإجمال.
3- الغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات وما في معناها، وأما عقود التبرعات فلا يؤثر فيها الغرر. وقد ذكر القرافي في الفروق قاعدة جميلة عن مالك رحمه الله وهي: “قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك”.
ثم قال: وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة فالطرفان: أحدهما معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة كما تقدم أن الجهالات ثلاثة أقسام فكذلك الغرر والمشقة، وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة نصوص صاحب الشرع بل إنما وردت في البيع ونحوه.
وأما الواسطة بين الطرفين فهو: النكاح، فهو من جهة أن المال فيه ليس مقصودا وإنما مقصده المودة والألفة والسكون يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقا، ومن جهة أن صاحب الشرع اشترط فيه المال بقوله تعالى: (أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم) [النساء: 24] يقتضي امتناع الجهالة والغرر فيه، فلوجود الشبهين توسط مالك، فجوز فيه الغرر القليل دون الكثير.
ثم ذكر أنه أجاز الغرر اليسير في الصداق نحو أصدقتك جملا من غير تعيين وأثاث بيت دون تحديد؛ لأن هذا يمكن الرجوع فيه إلى الوسط المتعارف ، ولا يجوز أن يكون الصداق بعيرا شاردا أو سمكا في الماء؛ لأن هذا ليس له ضابط فامتنع، كما منع مالك الغرر في الخلع مطلقا لأن العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد للمعاوضة بل شأن الطلاق أن يكون بغير شيء فهو كالهبة فهذا هو الفرق بين القاعدتين، والضابط للبابين والفقه مع مالك – رحمه الله – فيه” انتهى من الفروق بتصرف يسير.
التأمين التكافلي من عقود التبرع
عقد التأمين التعاوني الإسلامي: يمكن أن يخرج على مبدأ الالتزام بالتبرع حيث يُنص في عقده على: أن المشترك يتبرع بالاشتراك وعوائده لحساب التأمين لدفع التعويضات، وتفتيت الأخطار بين المؤَمّنين، ولو اقتضى غررا – ولا بد أن يقتضيه- فلا يؤثر؛ لأن عقود التبرعات لا يفسدها الغرر؛ فمبناها على الإرفاق والتعاون، على نحو ما ذكرنا سابقا من توسعة الشارع فيها.
كما يمكن تخريجه أيضا على عقد الهبة بعوض، أو على عقد الموالاة على الإرث، أو على ما يسمى بالنهد أو التناهد، وهو: إخراج كل واحد من الرفقة نفقةً على قدر نفقة صاحبه ليأكلوا منها جميعا وأكلهم متفاوت.
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأشعريين في جمعهم لطعامهم إذا قل وأكلهم منه جميعا، ومعلوم أن مقدار الأكل يختلف، وما لكل فرد يختلف عما جاء به غيره قلة وكثرة. ففي حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم» (متفق عليه).
وبالتالي فالتأمين التعاوني التكافلي الإسلامي ليس عقد معاوضة بل هو عقد تبرع محض، فيغتفر فيه الغرر، وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي 9(9/2) النص على: “أن العقد الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون”، بخلاف عقد التأمين التجاري القائم على عقد المعاوضة بين المشترك وجهة التأمين، فهو عقد يُلزَم فيه المؤمِّن أن يدفع للمؤمَّن له عوضاً مادياً يُتفق عليه عند وقوع خطر أو خسارة، مقابل رسم مالي يؤديه المؤمَّن له. فهو عقد غرر وقمار محرم؛ لامتناع الغرر في عقود المعاوضات، ويمكن الاستغناء عنه بالتأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، الساعي إلى الربح.
وإن كان الغرر ملازما للتأمين على أي صيغة اعتمد؛ لأنه يتعلق بأمور غيبية لا يعلمها إلا الله. لكنه اغتفر في التأمين التعاوني التكافلي لكونه عقد تبرع ولم يغتفر في التأمين التجاري لكونه عقد معاوضة.
_______________
المصادر والمراجع
1- تاج العروس للزبيدي 20/319.
2- القاموس الفقهي لسعد أبو حبيب ص37.
3- الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/65.
4- فتح العلي المالك لعليش: 1/218.
5- الجرجاني في التعريفات ص: 67.
6- البهجة شرح التحفة على الأرجوزة 2 / 228.
7- الفروق للقرافي 1/151.
8- موسوعة الفقه الإسلامي للتويجري: 3/446.
(*) المصدر: “إسلام أون لاين”.