تحل علينا اليوم ذكرى رحيل الشيخ حسن البنا (12/ 2/ 1949م)، ورغم مرور 71 عاماً على رحيله فإن بصماته وفكره ما زالا متوارثين بين الناس، بعدما أحدث جدلاً وزخماً بين العلماء والباحثين لما تركه من تراث؛ فكرياً وتربوياً.
رغم أن حسن البنا حرص على تأليف الرجال زاهداً في تأليف الكتب، فإن الواقع أكد أنه ترك تراثا عظيما، جُمع حتى الآن في 15 مجلداً تحت عنوان “من تراث الإمام حسن البنا”، بالإضافة إلى كتابه الشهير “مذكرات الدعوة والداعية”، تناول في كل جزء منها نوعاً معيناً من كتابات الإمام البنا سواء الدعوية أو التربوية أو السياسية أو الفكرية والاقتصادية وغيرها.
حسن البنا الذي نشأ في بيئة كان يسيطر عليها الاستعمار الذي كان يعمل على تنفيذ إستراتيجيته للحصول على أكثر قدر من الموارد الطبيعية التي تخدم مصلحة بلاده (بريطانيا)، ولذا نشر الجهل والفقر والرعب في قلوب هذا الشعب، فكان لهذه النشأة أثرها على كتابات حسن البنا، التي لم يعد بعضها صالحاً في هذا الزمان لتغير الواقع، وبعضها يظل مستمراً لانطلاقه من المنهج القرآني، وربما بعضها يصطدم مع الواقع، وقد لا تتناسب بعض هذه الكتابات والطروحات مع بيئات أخرى غير البيئة المصرية، وعلى الدارسين والعلماء أن ينزلوه منازل وقته الذي أُنتج فيه، وعالج فيه الرجل الواقع الذي كان يعيشه.
وهذا ما أكده بقوله: “إن لكل أمة من دول الإسلام دستوراً عاماً، وقانوناً يتحاكم إليه أبناؤها، وهذا القانون يجب أن يكون مستمداً من أحكام الشريعة مأخوذاً عن القرآن الكريم متفقاً مع أصول الفقه الإسلامي”(1).
شمولية الإسلام
انطلقت أفكار حسن البنا من خلال تربيته الإسلامية التي حرص والده على غرسه فيه منذ صغره، إلا أنه استطاع –بما حباه الله من علم– أن يبلور هذا الفكر وفق معطيات الواقع مغلفاً بالمنهج الشمولي للإسلام الذي عرفه البنا بأنه يشمل كل مناحي الحياة.
لقد تناول المنهج الفكري لحسن البنا العديد من القضايا كالديمقراطية ومفهومها في المنظور الإسلامي والدستور والقانون، ورؤيته للحزبية، وأيضاً رؤيته للدولة الدستورية، وهي ما سنتناولها كنموذج لفكر حسن البنا.
طالب الإمام حسن البنا منذ نشأة الإخوان بتطبيق الشريعة الإسلامية، فظن كثيرون أنه يطالب بدولة دينية قوانينها مقدسة -في ظنهم- مستمدة من عند الله، وبالتالي فهو يعارض الدستور والقانون لأنها اجتهادات بشرية، لكن البنا اعتبر الحكم الدستوري لا يتعارض مع الإسلام، وأشار إلى أنه ليس من المعقول أن تسن القوانين مخالفة للإسلام في دولة ينص دستور سنة 1923م على أن دين الدولة هو الإسلام.
فالحكم الدستوري –كما يراه البنا- يتمثل في وجود دستور وقانون يعبران عن تطلعات الشعب وسلطته وحرياته، ويتم تطبيقهما واحترامهما، فيقول في “رسالة الانتخابات”: “فالدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة، وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن، ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام”(2).
غير أنه وقف حول آليه التفاعل مع الدستور وكيفية تطبيق القانون على أرض الواقع، حيث رأى أن بعض مواد هذا الدستور مبهمة ولا بد من إيضاحها، فيقول: “فنحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم الدستوري باعتبارها متفقة، بل مستمدة من نظام الإسلام، وإنما ننقد الإبهام وطرائق الإنفاذ”.
بين القانون والدستور
وكانت نظرته للدستور مختلفة عن القانون الذي يحكم العلاقة بين الناس والدولة، فيقول: “وأحب قبل هذا أن نفرق دائماً بين الدستور وهو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات وواجبات الحاكمين ومدى صلتهم بالمحكومين، وبين القانون وهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض ويحمى حقوقهم الأدبية والمادية ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.. وأستطيع بعد هذا البيان أن أجلي لكم موقفنا من نظام الحكم الدستوري عامة، ومن الدستور المصري خاصة”(3).
ومع النظرة للدولة الدستورية الحقيقة أقر البنا فيها بالنظام النيابي المبني على إرادة حرة للشعب، وضرورة مشاركة الشعب في القرار السياسي، فيقول: “وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي الأساسية ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامي ولا غريباً عنه”(4).
الدولة الدستورية
كانت رؤية البنا للدولة الدستورية القائمة على دستور حقيقي وقوانين تطبق على الجميع، مع تعديل ما يتنافى مع تعاليم الإسلام وحياة الناس، وقد أبرزه من خلال كتاباته أن ثمة قصوراً في تطبيق الدستور والقوانين؛ وهو ما أدى إلى انتشار الفساد بين الناس وفي إدارات الدولة، فيقول: “إن كثيرًا من مواد هذه القوانين فيه ما يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام أو يعطل صراحة ما جاء به الإسلام”.
وأضاف: “ومع أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، فإننا نصرح بأن هناك قصوراً في عبارات الدستور، وسوءًا في التطبيق، وتقصيراً في حماية القواعد الإنسانية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدت جميعًا إلى ما نشكو منه من فساد، ما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية”(5).
لقد ترجم البنا رؤيته واقعياً حينما ترشح للانتخابات النيابية مرتين في دائرة الإسماعيلية عامي 1942 و1945م، حيث كان يرى أن من حق الشعب مراقبة ومحاسبة حكومته من خلال مجلسها النيابي المنتخب بإرادة الشعب، فيقول: “ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق المراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)”.
ويؤكد: “ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم، وإن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو ما يعبرون عنه في الاصطلاح الحديث بـ”الوعى القومي” أو “النضج السياسي” أو “التربية الوطنية” أو نحو هذه الألفاظ.
والحكومة في الإسلام تقوم على قواعد معروفة مقررة، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي، فهي تقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال، فالحاكم مسؤول بين يدى الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم”(6).
ومن هنا؛ فإن الدولة الدستورية هي ما يدعو إليها حسن البنا، وأن يخضع جميع المواطنين للدستور والقانون دون تفرقة على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو المنصب أو المكانة الاجتماعية.. دولة تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء وحماية مبدأ العدالة بين المواطنين.
________
الهوامش
(1) رسالة إلى أي شيء ندعو الناس: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2008م، صـ 71.
(2) رسالة الانتخابات: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، المرجع السابق، صـ823.
(3) رسالة المؤتمر الخامس: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، المرجع السابق، صـ 393.
(4) نظام الحكم: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (480)، السنة الثانية، 12 محرم 1367ﻫ- 25 نوفمبر 1947م، صـ1، 5.
(5) رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: مرجع سابق، صـ725.
(6) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (479)، السنة الثانية، 11 محرم 1367ﻫ- 24 نوفمبر1947م، صـ1.