إذا كان الدكتور جابر عصفور قد رأى أن الرواية ديوان العرب المعاصر؛ بل وصف الزمن بأنه للرواية وحدها دون الشعر؛ فإن الكتاب قد تماهوا مع تلك المصادرة الفكرية وصاروا يباهون بفصولها، نسخ مكررة وكتابات يجتر بعضها بعضا، إنها فوضى التأليف وامتلاء الذات بوهم الإبداع.
قليلة هي الأعمال الإبداعية التي تؤصل للفن وتراعي قواعده، لا أصادر على غيري ولا أمتلك الحجر على أقلامهم؛ لأن ذلك يخرج عن مهمة الناقد إلى الرقيب الذي صادر ومنع بجرة قلمه؛ غير مبال بأن الزمن تجاوزه وأكثر الأعمال شهرة ما منع الناس من تداوله.
نحتاج مبدعين في مجالات الفكر المنهجي الذي يدفع بقاطرة الثقافة قدما، استهوت الرواية جيلا بأسره، لكنها لم تظهر مبدعين من طراز نجيب محفوظ رغم أن دواعي الكتابة ملحة ومظاهر الحياة تدعو إلى عالم يغاير سرد نجيب محفوظ.
ألح علي كثيرون أن أسرد رواية؛ اعتذرت لأن قلمي لا يطاوعني، أحب القصة القصيرة؛ بتركيزها، وبتكثيف سردها، أنتهي منها وأشعر بأنني غادرت نصي وقد كتبت كل ما أستطيع.
أرى الفن تجويدا ومتابعة ﻻ تقليدا ومسايرة للشارع الثقافي، لي عالمي الذي أعايش لحظاته وحكاياته.
متعتي أن أرسم لوحة سردية مختصرة؛ تحمل رموزها دﻻلات معينة.
كأن معرض الكتاب أقيم للرواية؛ يدهشك أن تجد كل دور النشر تنادي على الروايات لمؤلفين لا يسمع به أحد، هل يفسر ذلك باستهواء معرفي واستسهال التأليف دون أن يحظى صاحبه بقدر من المعرفة؟
الرواية فن راق لا جدال في هذا، تستأثر بأحلام الجيل ومن ثم ينسج الكتاب خيوطا من سرد موغل في العمومية، يدور الإبداع في فراغ ممتد، مأساة الحب وهروب الأنثى؛ ﻻتجد سردا يرسم لوحات جميلة، أخطاء كتابية ونضوب في المعجم اللغوي؛ أنهم لا يقرأون الأعمال الرائدة.
أذكر أن أحد النقاد أبان عن معضلة مهمة؛ من يقرأ أعمال ديستوفسكي القصصية لا يتمثل لغته ولا ثراءه الفني، إنما يقرأ لمترجمه سامي الدروبي وهو يظن أن هذا لديستوفسكي، تلك معضلة قلما يلتفت إليها أحد.
سيظل نجيب محفوظ عملاق الرواية العربية بما أبدعه وبما أثاره من قضايا معرفية ووجودية؛ يمتلك الثراء اللغوي الذي أدخل على العربية المعاصرة تعبيرات رائعة.
لقد أرهق من جاء بعده، كلنا يحاول اللهاث خلفه وهو السابق مادة وفنا!
تعب الصياد من تتبع صيده الكبير في كل مرة يرمي بمخزونه من الطعوم، الأمل يراقصه ودوامات الماء التي يحركها الصيد تشعل رغبته.
فقد كل الطعوم ولا يزال فعل الجذب الخادع يأخذه.
لا هو يصطاد ولا هو يحافظ على طعومه التي ادخرها من حبوب أبنائه.
لم تحدث مقولة نقدية إشكالا وتهويما مثلما أحدثته مقولة زمن الرواية. بنية المقولة خداعة جاذبة كما الصيد الكبير.
وعليه بدأ فعل التقليب والتجاهل والصيد المبكر المدفوع بالنزوة الجارفة نحو عالم الإبداع المدهش، لقد انزاح الشعر بعيدا ومن ثم تهاوت سلطة الناقد المحترف أمام الكثرة التي التهمته، يعيب الروائي على الناقد أنه لا يتابع منجزه السردي، ينشغل الشاعر بعالمه المتوراي خلف ظلال عاطفته الجامحة، إنها حالة من التيه، ندور في متلازمة الفراغ.