بدا هذا الاتجاه واضحاً في التفاعلات الدولية، لكن في السنوات الأخيرة برزت كذلك ظواهر أخرى حول العالم، كان من بينها صعود اليمين المتطرّف، والنزعات العنصرية، والاتجاهات القوميّة والانفصالية، والتوجّهات الانعزالية على مستوى السياسة الخارجية، وظاهرة الزعماء الشعبويين، والأزمات الاقتصادية العالميّة الحادّة.. في هذه الظروف الدولية، صعد فيروس «كورونا» (كوفيد- 19) بشكل مفاجئ من مدينة ووهان الصينية، وبفضل امتطائه لوسائط العولمة، تحوّل الفيروس سريعاً إلى جائحة في غضون أسابيع قليلة، مُغيّراً بذلك شكل الحياة التي اعتاد البشر عليها قبل ظهوره.
أدى الفيروس إلى تعطيل الاقتصاد العالمي، وفرض إجراءات قاسية للحجر الصحي والعزل والتباعد الاجتماعي، ووضْع ضغوط هائلة على أنظمة الرعاية الصحية، وإجبار مئات الملايين من البشر حول العالم على البقاء في بيوتهم، وإغلاق مدن ودول بأكملها.. تدافعت الحكومات لحماية نفسها ومواطنيها أوّلاً، وتدخّلت بعض الجيوش لمساندة الحكومات في مواجهة الوباء، واستغلت بعض الدول الأخرى الوضع، وقامت بتوظيف الجائحة للحصول على المزيد من النفوذ الدولي، وظهرت العديد من المؤسسات الدولية في مظهر العاجز، وبدا أنّ كل شيء قد تغيّر في العالم بشكل سريع.
طرحت هذه المشاهد تساؤلات حول مفهوم القوّة ومصير العولمة ومستقبل النظام الدولي والمؤسسات الدولية والقيادة الأمريكية للعالم والتحولات التي قد تطرأ على موازين القوى والتحالفات الدولية، يذهب البعض إلى القول: إنّ الجائحة ستؤدي إلى ولادة نظام عالمي جديد، لكن في المقابل؛ هناك من يرى أنّ في مثل هذه التوقّعات أمراً مبالغاً فيه، ذلك أنّ الأوبئة والأمراض والفقر والكوارث الطبيعية وإن كانت تؤثّر على المشهد الدولي، إلاّ أنّها لا تصنع نظاماً دولياً وليس لديها القدرة على وضع البدائل.
النظام الدولي يولد نتيجة لصراعات أو تفاهمات بين فاعلين دوليين، ولذلك غالباً ما أدّت الحروب العالمية والصراعات الدمويّة أو التفاهمات التي تليها إلى ولادة نظام دولي، وبهذا المعنى ما لم تؤدِّ الجائحة الحالية إلى حرب عالمية مباشرة يكون فيها فائزون وخاسرون، فجلّ ما يُتوقع أن تفعله هو أنّها ستسرّع من وتيرة التحوّلات الحاصلة خلال العقدين الماضيين، وأبرز معالمها تراجع دور الولايات المتّحدة وقوتها، وتقدّم الصين اقتصادياً وعسكرياً، وتآكل دور المؤسسات الدولية، وتعطّل دور العديد منها، وتفكّك أو ضعف المزيد من التجمّعات الدولية أو فقدانها لقيمتها، وازدياد التنافس بين القوى الإقليمية في الأقاليم الرئيسة حول العالم.
بين أمريكا والصين
من المتوقع أن تؤدي تداعيات الجائحة إلى تعميق تشتيت القوّة الحاصل بعد تراجع عهد الأحاديّة القطبيّة، الولايات المتّحدة ستبقى متفوّقة عسكرياً على باقي الأمم بفارق كبير، سواءً فيما يتعلق بالموازنات الضخمة لوزارة الدفاع، أو ما يتعلق بالقدرات العسكرية والتكنولوجية، لكن عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد؛ فإنّ الأمر مختلف تماماً؛ فالصين تحتل منذ سنوات المرتبة الأولى عالمياً من الناحية الاقتصادية (الناتج المحلي الإجمالي بالقدرة الشرائية)، وهي في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتّحدة (الناتج المحلي الإجمالي الإسمي)، وتجربة العقود الثلاثة الماضية تشير إلى أنّها استفادت من كل الأزمات الاقتصادية التي ضربت العالم لتعزيز موقعها.
ولذلك؛ فمن المنتظر أن تؤدي الجائحة وما سينجم عنها من أزمة اقتصادية كبرى إلى تثبيت بكّين لموقعها كصاحبة أكبر اقتصاد في العالم، وأن تقلّص الفجوة القائمة بينها وبين الولايات المتّحدة بشكل كبير عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد الاسمي، أمّا الاتحاد الأوروبي؛ فإنه سيعاني من انكماش اقتصادي بفعل الجائحة قد يصل حجمه إلى 2.5%، فيما تشير بعض التوقعات المتفائلة إلى أنّ حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي سيتراجع بنسبة 1%.
من الناحية السياسية؛ فإنّ تشتت القوة سيظهر بشكل أكبر على هذا المستوى، لا أحد في العالم قادر اليوم على مواجهة أي خطر أو تحدٍّ منفرداً مهما بلغ من قوّة، ومن الملاحظ أن التعاون العالمي بين الدول الكبرى آخذ في التراجع لصالح أجندات وطنية، الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن لا تزال تتمتع بأفضلية على غيرها بسبب قدرتها على استخدام حق النقض (الفيتو)، لكن خارج إطار مجلس الأمن؛ فإنّ الانقسام شديد بين الولايات المتّحدة وأوروبا وحلفائهما من جهة، وبين روسيا والصين وإيران والدول التي تدور في فلكها من جهة أخرى.
ستعزّز الجائحة -على الأرجح- من الانقسامات داخل الجبهة الأولى، وتدفع في المقابل إلى تمتين التحالفات القائمة في الثانية، من الواضح أنّ الاتحاد الأوروبي سيكون من أبرز المتضرّرين من الناحية السياسية، على صعيد النفوذ؛ أظهرت الأزمة أنّ الولايات المتّحدة تعاني من أزمة قيادة، وأنّ الصين وروسيا والدول التي تدور في فلكها جاهزة لاستغلال الأزمة وزيادة نفوذها كما حصل تماماً في حالة إيطاليا، إذا لم يتدارك الاتحاد الأوروبي نفسه، فإنّ موسكو وبكين ستزيدان من نفوذهما في القارة العجوز خلال المرحلة المقبلة.
على مستوى الاتجاهات الدولية الموجودة داخل النظام الدولي الحالي، ليس من المبالغة بمكان القول: إنّ تأثيرات الجائحة ستكون كبيرة لناحية تعزيز العنصرية والحركات اليمينية المتطرّفة، وستغذّي التيارات المعادية للعولمة والداعية إلى عودة النزعات القوميّة والانعزالية، وإلى سيطرة الأنظمة الدكتاتورية على شعوبها.
مستقبل المؤسسات الدولية
وفي ظل غياب مجلس الأمن عن الجائحة وتفاعلاتها التي وصفها أمين عام منظمة الأمم المتّحدة بأنّها تشكّل التحدّي الصحّي الأبرز منذ ما يزيد على 75 عاماً، فإنّ هناك تساؤلات وشكوكاً حول مستقبل المؤسسات الدولية لا سيما مع الاتهامات التي تُساق ضد «منظمة الصحة العالمية»، ومدى خضوعها أو انحيازها إلى الصين في هذه الأزمة، علاوة على بطئها في الاستجابة لهذا التحدّي العالمي، ستكون تأثيرات الجائحة على طبيعة عمل هذه المؤسسات كبيرة، لكن ليس هناك ما يوحي بأنّ أحداً في العالم قادر على إنشاء بديل الآن بشكل منفرد بالرغم من التحركات الصينية خلال العقل الماضي لإنشاء مؤسسات إقليمية رديفة لتلك الموجودة على الصعيد الدولي.
سيكون هناك -من دون شك- تحوّلات تتعلق بدور التكنولوجيا في حياة البشر وفي المؤسسات والوظائف، وسيكون هناك اتجاهات متزايدة لتوطين الصناعات الحسّاسة والأكثر أهمّية بالنسبة للدول، كما قد يتمّ الاتجاه إلى تقييد العولمة للعمل على الحد من سرعة انتقال أي تداعيات سلبية محتملة مستقبلاً إلى جميع دول العالم.
كل ذلك يعني أنّ الجائحة ستسرّع من وتيرة تآكل النظام الدولي القائم حالياً، لكن ليس في الأفق ما يشير إلى تحوّلات جذرية في المشهد، بمعنى آخر؛ فإنّ الفيروس والأزمة الاقتصادية التي تصاحبه ستسرّع من المعطيات القائمة، ولكنّها لن تأتي بجديد من هذه الزاوية، يبقى العنصر الأبرز، باعتقادي، هو التنافس الأمريكي – الصيني الذي من المتوقع أن يزداد بشكل حاد على وقع هذه الجائحة، وربما يكون العنصر الأبرز في تحديد إمكانية ولادة نظام دولي جديد مستقبلاً.