إذا كان المجتمع الفلسطيني كله يعاني من شرور الاحتلال الصهيوني (عمالاً، وفلاحين، وطلاباً، ونخبة مثقفة)، فإن الشرور التي وقعت على الأسرة الفلسطينية هي نوع من الشرور المركبة القذرة؛ فما يقع على الأسرة من ضغوط وعنف واضطهاد يتجاوز مجموع ما يقع على كل فرد، ويتلامس بشكل واضح مع الرؤية المستقبلية للقضية.
ولقد اعتمدت آلة القمع الصهيونية على أشكال متداخلة من العنف البدني والنفسي الموجهة لتفكيك وخلخلة البنية العميقة للأسرة الفلسطينية؛ بهدف خلق أمر واقع جديد لا على الأرض فحسب، بل في شخصية الجيل القادم الذي يواجه هذا الاحتلال.
انتهاك الطفولة
لعل أبشع ما قام به العدو الصهيوني منذ أن احتل هذه الأرض المباركة هذه الانتهاكات البشعة التي قام بها تجاه الأطفال الفلسطينيين، فجعلهم يعيشون تجربة حياتية تفتقر للأمن والاستقرار النفسي، حياة تترعرع على هدم البيوت وضرب الآباء وسجنهم، حياة بها مجموعة من الخبرات الصادمة التي تترجم في صورة كوابيس ليلية مفزعة وفرط حركة وتشتت انتباه وانطوائية والتصاق بالكبار.. وغيرها كثير من المشكلات النفسية التي رصدتها المؤسسات المعنية بالأمر. بعض من يكتبون عن الطفل الفلسطيني يكتبون كما لو لم يكن مجرد طفل بحاجة لإشباع حاجياته الأساسية، وعلى رأسها الرغبة في الأمان حتى يشب طفلاً سوياً نفسياً؛ فهو لا يولد بطلاً أو خارقاً.
على أن الأمر يتجاوز هذه القاعدة النفسية الهشة التي ينشأ عليها الطفل في ظل الاحتلال؛ حيث تفنن الاحتلال في هدم أركان شخصية هذا الطفل؛ فهو لا يريد إنساناً فلسطينياً على درجة من العلم والثقافة ذا لياقة صحية جيدة، فعمد إلى خلق بيئة تعليمية بالغة السوء تدفع الطلاب حتى في المرحلة الإلزامية للتسرب من المدرسة، ويعزز الوضع الاقتصادي المتردي للأسرة من عملية هذا التسرب؛ حيث يذهب الأطفال للعمل بالمستوطنات في ظل ظروف بالغة القسوة؛ بحيث يفتقدون مع هذا العمل المضني ليس التعليم فحسب، وإنما الصحة في سنوات النمو الثمينة؛ فأن يعمل طفل بدوام كامل لمدة 60 ساعة في الأسبوع في درجات حرارة تزيد على الأربعين كما في غور الأردن؛ لهو انتهاك غير مسبوق لحقوق هذا الطفل.
وتزداد المأساة إذا أضفنا لذلك حمل الصناديق الثقيلة التي تؤثر على فقرات الظهر الغضة، أو تلك المبيدات التي ترش على المزروعات التي تسبب التهاب العين وحساسية الجلد، وتلك المعاملة المهينة التي تحط من كرامته حتى لا يستطيع في المستقبل أن يخرج عن حدود الدور المرسوم له، بل إن هذا الدور له يد في الترويج للمخدرات بين الشباب الفلسطيني الصغير الذي ما زال في مرحلة المراهقة، والهدف من ذلك كله هو تحطيم الشخصية الفلسطينية بتحطيم مستقبلها المتمثل في هذه الطفولة الناشئة.
تحدي النساء
على أن المخطط الصهيوني لتحطيم الأسرة الفلسطينية لا يمكنه أن يتم دون استهداف النساء اللاتي يمثلن قلب الأسرة النابض بحزمة متشابكة من التحديات والعقبات؛ تبدأ من تحدي الإفقار الذي يمارس بحقها وحق أسرتها، وكثيراً ما تجد نفسها هي المعيل الأساسي للأسرة، ولأنه لا يوجد مشروعات عمل فلسطينية كافية، ولأنها قد تحصل على إعانات شحيحة للغاية أو لا تحصل على الإطلاق، وتتبخر كل الأفكار عن التمكين الاقتصادي للمرأة، فهو غير موجود إلا لمواجهة سلطة الرجل داخل الأسرة.
فالمنظمات الداعية لمثل هذه الأفكار لا تتبع إلا شروط المانحين التي لا يعنيهم في شيء معاناة المرأة الفلسطينية على أرض الواقع ولا مساعدتها على عيشه ومواجهته؛ بل راحوا يخلقون لها مشكلات وهمية ينفقون عليها بسخاء، ومن ثم تضطر عدد غير قليل من النساء المعيلات للعمل في المستوطنات كعمالة زراعية وفي بعض الصناعات الصغيرة بل وكخادمات منزليات، كل ذلك بصورة غير قانونية لا تراعي الحد الأدنى من الأجور، وبدون أي تأمين أو تعويض، بل كثيراً ما تتعرض العاملة الفلسطينية للتحرش الجنسي من قبل المستوطنين أصحاب العمل، وللأسف يتم التكتم على مثل هذه الأمور، وتعاني الضحية في صمت لأنها تعتقد أنه لن يساعدها أحد.
على أن التحديات التي تواجه المرأة الفلسطينية في الضفة الغربية تتجاوز التحديات الاقتصادية الظاهرة للعيان؛ فالعبث بعقل وفكر المرأة هو الهدف الإستراتيجي الصهيوني، فمن خلال المنظمات النسوية الكثيرة المنتشرة التي يهبها المانحون في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معونات سخية، يتم الترويج للفكر النسوي بين النساء لرفض الزواج المبكر وتحديد النسل حتى لا يقاطع ذلك مسيرة المرأة العلمية والعملية، تحت زعم أن قضيتنا هي قضية كيف ونوعية لا قضية كم.
في المقابل، تشن داخل مجتمع المستوطنين حملات هستيرية تناقش الخطر الديمغرافي وأهمية الدخول في حرب الأرحام، أو كما قال الباحث الصهيوني «غاي بخور»، منذ سنوات: «علينا الفوز في حرب الأرحام مع الفلسطينيين، وذلك من خلال مشروع وطني نجند فيه رجال الدين لرفع نسبة الإنجاب رداً على التفوق العربي»(1)، وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد استقطبت المستوطنات اليهود الأكثر تديناً، خاصة مع رخص السكن هناك، وكثير من الامتيازات؛ للحث على الإنجاب الذي تسارعت وتيرته؛ حيث إن معدل المواليد لدى المستوطنين أكثر من 7 أطفال للأسرة الواحدة، وتتميز مستوطنة موديعين عيليت بمعدل خصوبة أعلى من أي مدينة في الأراضي الفلسطينية بمتوسط 7.59 طفل لكل أسرة، وفي الوقت الحالي تنجب الأمهات الفلسطينيات بالضفة الغربية أطفالاً أقل من أي وقت مضى بمتوسط 3.2 طفل لكل أسرة، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن تأثير هذا التباين لن يظهر قبل جيل واحد(2)، فهل حقاً انتصر الرحم اليهودي؟
ماذا بعد «الضم»؟
إذا كانت نتائج المخططات الإستراتيجية الديمغرافية لدولة الاحتلال قد لا تظهر إلا بعد جيل قادم، فإنهم لا ينتظرون في صمت حتى ذلك الوقت؛ فعملية ترويع الأهالي الفلسطينيين بغية تهجيرهم قائمة على قدم وساق؛ فعملية هدم البيوت مستمرة، حتى الخيام اقتلعوها إلى حد أن لجأ أهالي قرى بالكامل للسكن غير الآدمي في كهوف الجبال، وتحملت المرأة الفلسطينية النصيب الأكبر من العبء لتوفير الحد الأدنى الممكن للحياة في كهوف بلا كهرباء ولا ماء ولا صرف صحي، فالأمر يتجاوز شظف العيش للحياة المستمرة تحت التهديد الذي يمثله المستوطنون المسلحون قبل الذي يمثله جيش الاحتلال، وما حرق عائلة دوابشة ببعيد، حتى أزمة «كورونا» لم تُثنِ المستوطنين المصابين بالفيروس من إحراق عدد من المركبات الفلسطينية وإلقاء الحجارة على المواطنين الفلسطينيين العزل ورشهم بغاز مسيل للدموع.
على أن الضم الرسمي المزمع لغور الأردن وأجزاء واسعة من الضفة الغربية تشمل المنطقة «ج» على الأقل يحرم الأسرة الفلسطينية من حق الوجود ذاته؛ فهذه العائلات لن يتم التعامل معهم كعرب 48، بل سيسعى الاحتلال لتهجيرهم قسرياً بكل صور العنف الممكنة؛ فهو لا يطيق انتظار نتيجة التغير الديمغرافي، وربما لا يثق في استمراريته على مثل هذا النحو.
ولعلنا نذكر اقتراح «الليكود» السابق بدفع مبالغ سخية للعائلة الفلسطينية التي تهاجر من الضفة طوعاً وتترك الأرض المباركة، إلا أن قرار الضم بالقوة سيكون هو الأسوأ؛ فعلى الرغم من حرمان الفلسطينيين من كثير من الأراضي بزعم أنها أراض عسكرية، ورغم التشريد وهدم المنازل؛ فإن ذلك كله مخالف للقانون الدولي، وإذا تم تمرير هذه الخطة ضمن سياق «صفقة القرن»؛ فسوف تعيش الأسرة الفلسطينية مأساة تتشابه فصولها مع مأساة الفلسطينيين أيام نشأة كيان الاحتلال من قتل وترويع وتهجير، ومن المحتمل جداً ألا يصمت الفلسطينيون على هذه الخطة، وتندلع أعمال مقاومة مسلحة مع ما يتبع ذلك من أسر وتصفية جسدية تطال حتى الأطفال، وتنوء كواهل النساء بأعباء مسؤولية وإعالة الأسرة، أو تكون هي ذاتها هدفاً لعملية الأسر والتصفية.
مستقبل غامض ملبد بغيوم القلق والترقب ينتظر الأسرة الفلسطينية إذن في ظل حالة من التخاذل والانقسام العربي التي تعيشها أمتنا.
________________________________________________________
(1) تقرير منشور بـ»الجزيرة.نت» بعنوان «حرب الأرحام.. المرأة الإسرائيلية وهستيريا الديمغرافيا».
(2) تقرير منشور على موقع «بي بي سي» بعنوان «صفقة القرن: ما هي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، ولماذا يرفضها الفلسطينيون؟»، بتاريخ 30/1/2020م.