مثلت قرارات “بنيامين نتنياهو”، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، الأخيرة بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن صدمة لبعض أولئك الحالمين بما يسمونه “السلام”، بحسبانها جزءاً أصيلاً من “صفقة القرن” التي أعلن عنها الراعي الأمريكي مطلع العام الجاري.
“صفقة القرن” وخطواتها المحسوبة بدءاً من نقل السفارة وليس انتهاء بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، هي أحد تجليات الضعف العربي التي يمكننا لمسه في رد الفعل المهترئ على ما يمكن وصفه بالخطوات الأخيرة لتصفية القضية.
لذا، فإن أسئلة كثيرة تثار عقب الإعلان عن قرار الضم، لعل أهمها:
ما موقع الداخل “الإسرائيلي” من معادلة الإعلان والتأجيل اللذين لعب بهما “نتنياهو”؟ وكيف يمكننا فهم طبيعة العلاقة بين أمريكا ودولة الاحتلال في إطار تحركات “نتنياهو”، وتصريحات “جو بايدن” المرشح للرئاسة الأمريكية؟
وفي المقابل، كيف هو رد الفعل العربي؟ ولماذا بدا بهذه الصورة الباهتة؟ وعلامَ يستند الملك عبدالله الثاني، عاهل الأردن، في تصريحاته شديدة اللهجة التي وجهها للاحتلال؟ وما الدور المنتظر من مصر بحسبانها الراعي التاريخي للقضية؟
وعلى مستوى الداخل الفلسطيني، هل يمكننا التعويل على انتفاضة جديدة يتوحد فيها الفلسطينيون؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي؛ فما سبب ذلك؟
كل هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الخبير في الشأن “الإسرائيلي” أستاذ اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس أ.د. عامر الزناتي، في هذا الحوار.
كيف ترى قرار دولة الاحتلال الأخير بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، على مستوى أسبابه وتبعاته؟
– هذا القرار له عدة أسباب، لعل أهمها ما يتعلق بالحالة الداخلية «الإسرائيلية»؛ بمعنى أن «بنيامين نتنياهو» يريد الحصول على مجموعة من المكاسب تضفي لصالحه مزايا تمنع عنه الوقوع في شرك الإشكالات القانونية التي تورط فيها، وكأنه يريد لهذه المكاسب أن تكون أحد الحصون التي يلتجئ إليها هرباً من هذه القضايا.
أيضاً من أهم أسباب هذا القرار التي لا يمكننا إهمالها ما يمكن تسميته بحالة الضعف العربي الشديد الذي ربما لم يكن من قبل في تاريخ الصراع العربي الصهيوني؛ فحيثما قلَّبت بصرك سترى هذا الضعف والتمزق بادياً للعيان؛ فاليمن كما ترى، والعراق كما يعرف الجميع، وسورية حدِّث ولا حرج، وليبيا بالصورة التي يشاهدها الكل على شاشات الفضائيات، والسودان على هذه الكيفية من التمزق، حتى الأقطار العربية التي يمكن القول: إنها يمكن التعويل عليها تعاني أزمات داخلية وتفرض عليها ملفات لتشغلها عن هذه القضية المحورية.
فمصر مثلاً مشغولة بملف “سد النهضة”، وكذلك بحدودها الغربية مع ليبيا، والخليج العربي كاملاً لم يعد كما كان من قبل؛ السعودية منشغلة باليمن، وباقي دول الخليج تعاني من حالة الفرقة حيث هناك الحصار المفروض على قطر.. وهكذا.
هذه الحالة جعلت الاحتلال يختار اللحظة الراهنة بحنكة كبيرة كأنسب لحظة يمكنه من خلالها إعلان هذه القرارات، على أساس أن رد الفعل العربي سيكون -في أقصى مدى له- مقتصراً على بيانات الشجب والإدانة فقط، بحسبان الوضع الداخلي في كل دولة يمثل حالة من الغليان التي تشغلها عن التفكير في أي قضية خارجية.
على المستوى الدولي، هل يعتبر وجود إدارة «دونالد ترمب» والتعويل عليه أحد أسباب اختيار توقيت الإعلان؟
– بكل تأكيد؛ فالمجتمع الدولي خاضع خضوعاً كبيراً لفكرة الضغط الذي يمارسه الرئيس الأمريكي «ترمب»، وهو بالمناسبة يحاول التمرير بهذه الطريقة منطلقاً من مصلحة شخصية في دعم اللوبي اليهودي له داخل الولايات المتحدة.
أضف إلى ذلك، من ناحية أخرى، أن فكرة “صفقة القرن” لم تنتهِ لا بالنسبة للإدارة الأمريكية ولا للإدارة “الإسرائيلية”، الفكرة ما زالت قائمة، وبالمناسبة موضوع الضم جزء من تلك الصفقة وأحد بنودها، حتى الاختلاف على حجمه وتوقيتاته وكونه مرحلياً أو مرة واحدة كل هذا لا ينفي أنه محل اتفاق بين الطرفين.
لكن كانت هناك دائماً بالنسبة لغور الأردن علامة استفهام! بمعنى؛ هل توقيع الأردن على اتفاقية السلام يستطيع معه أن يعلن سيطرته على غور الأردن بعد انتهاء فترة التأجير لدولة الاحتلال؟ هذه كانت علامة استفهام كبيرة، وفي اعتقادي أن الإجابة بالنفي، لم يكن الأردن قادراً على ذلك، لعدة أسباب:
أولاً: أن هذا مناقض للإستراتيجية “الإسرائيلية” الأهم؛ وهي “إسرائيل الكبرى” التي تساعدها الظروف الحالية مجتمعة في تسارع تنفيذها سواء الموجود في العراق أو سورية أو غيرهما.
ثانياً: انشغال الإدارة المصرية بملفاتها الكثيرة، وهذا رد على من يؤكد أنها يمكنها التحرك في هذا الإطار، فهناك “سد النهضة”، كما أشرنا، وهاجس الحدود الغربية.
لكن، للإنصاف الإدارة المصرية أصدرت بياناً مشتركاً شديد اللهجة مع فرنسا والأردن رفضت فيه هذه الخطوة وحذرت الاحتلال من تبعاته؟
– وماذا حدث؟! دعني أسألك بطريقة أخرى: ألم نستنكر نقل السفارة ونرفضه؟! ألم نصدر وقتها بيانات تشجب وتدين وتستنكر وتحذر؟! وماذا حدث بعدها؟! تم نقل السفارة وأصبحت أمراً واقعاً، والأهم أن دولاً كثيرة تحت ضغط إدارة «ترمب» عليها وافقت على نقل السفارة!
هذا ما أريد قوله؛ هؤلاء يتعاملون بمنطق القوة، أما المنطق الدبلوماسي فافعل فيه ما تريد ونحن سننفذ ما نريد، القوة هي الأصل، هم لديهم القوة ليفعلوا ذلك، وأنت لا تمتلك تلك القوة وليس لك أي سهم فيها، أو بالأحرى قوتك معطلة بفعل فاعل.
وهنا أريد أن أؤكد شيئاً غاية في الأهمية؛ هؤلاء الناس لا يفكرون في اللحظة الحالية؛ لأنهم أعدوا لها منذ عشرات السنين، فضم أجزاء من الضفة وغور الأردن ليس وليد اللحظة، كل ذلك مخطط له من قديم من أجل إبعاد غزة صاحبة الكثافة العددية الكبيرة لما تمثله من عبء على الاحتلال.
وإذا أردت دليلاً على ذلك فانظر إلى اتفاقية “أوسلو”، ليس فيها أي تحديد مطلقاً لوضعية هذه المستوطنات، حتى ما قيل عن حل توافقي باستبدالها، هو كلام عائم ليس فيه تحديد، وهذا يدل على أنهم يدركون جيداً أنهم لن يتركوها، وأن هذه الأرض كلها كما يدرّسون لأبنائهم ملك لهم، هؤلاء يختلفون عنا في طريقة التفكير التي يضعون فيها خططاً إستراتيجية لخمسين سنة قادمة، وليس خمس أو عشر سنوات.
بمناسبة ما يدرّسونه لأبنائهم، هل ترى أن إستراتيجيتهم عقدية بحتة، أم استعمارية قائمة على التوسع، وأن الدين فيها مجرد مطية لهذا التوسع؟
– بكل تأكيد؛ الدين لديهم مطية يحاولون من خلاله إضفاء الشرعية على مسلكهم، لكنهم في الأصل صهاينة، والصهيونية حركة استعمارية توسعية تستخدم الدين فقط لكنه ليس محركها الأساسي، محركها الأساسي هو إستراتيجية التوسع، بدليل أن طوائف يهودية كثيرة ترفض هذا المسلك الصهيوني، وترى أن التوراة لم تنص عليه.
وخطورة العقلية التوسعية أنها لو استطاعت أن تصل إلى مرحلة “الكانتونات” المعروفة تاريخياً في جنوب أفريقيا ستفعلها، وستجعل العرب يعيشون فيها، وستمارس فصلاً عنصرياً قميئاً ضدهم، والدليل على ذلك أن عرب الداخل حينما حاولوا تحريك عرب النقب حركوهم بالجبر، وحدثت مشكلات كثيرة داخلية، المهم أن هذه العقلية تحاول تنفيذ ما تراه لصالح فكرة الدولة الكبرى التي تتوسع بأي ثمن، مستخدمين الدين كمطية ومسوغ لفكرة وجودهم من أساسها، وهنا يبقى السؤال قائماً: ماذا نحن فاعلون والوضع على هذه الصورة؟
هل يمكننا أن نعوّل على انتفاضة للشعب الفلسطيني كالانتفاضات السابقة يمكنها حلحلة الوضع القائم وفرض رؤية معينة على الاحتلال؟
– يؤسفني أن أبدو متشائماً، لكنني لا أعوّل على ذلك؛ لأسباب كثيرة؛ أولاً الشعب الفلسطيني منقسم انقساماً حاداً بين «فتح» أو «منظمة التحرير» أو «السلطة» القائمة بالمعنى الصريح، وحركة «حماس» بما لها من رصيد شعبي كبير، أساساً هذا الانقسام وحده كفيل بوأد أي انتفاضة في مهدها، فالواجب أولاً إنهاء هذا الانقسام والاقتتال المكبوت، وتوحيد الرؤى، ثم الانطلاق بخطة محددة، وهذا من الصعوبة بمكان الآن، وبالمناسبة هذا ما يدركه الاحتلال إدراكاً واعياً، ولذا كما قلت من قبل؛ فإنه اختار اللحظة بحسابات شديدة الحساسية، لإدراكه أن هذا الانشغال داخل البيت الفلسطيني بخلافاته سيمنعه من التوحد ضده.
أكرر وأقول: نحن في مصر وعالمنا العربي مثلاً أقصى خطط موضوعة الآن هي عام 2030م، لكن في دولة الاحتلال عام 2050م انتهى ويفكرون فيما بعده، الناس يفكرون لنصف قرن إلى الأمام وليس لعشرة أو عشرين عاماً.
العقلية الغربية الإستراتيجية هي التي تحكم “إسرائيل”، والفكر الإستراتيجي الغربي هو ما يسيطر على مقاليد الأمور هناك، فـ”إسرائيل” في النهاية بؤرة استعمارية صنعها الغرب داخل الجسد العربي، هذا جانب يمنع للأسف من التعويل على انتفاضة فلسطينية، جانب آخر مهم يجب وضعه في الحسبان؛ وهو ما حدث في مسيرات “حق العودة”، وما حدث في مستوطنات غلاف غزة وغيرها وشدة التنكيل، كلها أمور ستجعل من الانتفاضة بالطريقة المعروفة مخاطرة شديدة.
لذا، فإن أي تفكير في حراك من هذا النوع يجب أن يتم التخطيط له بتركيز وحذر شديدين، فالفلسطينيون قد عانوا معاناة شديدة، وهم يريدون ولا يألون جهداً في تحرير أرضهم، لكن أيديهم مغلولة؛ لذا يجب أن يتم التخطيط لحراكهم بحرص شديد تجنباً لمزيد من الخسائر.
ما موقع حركات المقاومة في هذه المعادلة؟
– حركات المقاومة الفلسطينية مكتوفة الأيدي طبقاً لتوجهاتها؛ بمعنى أن «حماس» أو «الجهاد» أو غيرهما من الفصائل محكومة بتوجهاتها التي تمليها عليها اللعبة السياسية، ولذلك فلم تعد قادرة على العمل في الفراغ، وإنما لديها محاذير كثيرة.
وللتوضيح؛ هل يمكن أن تتحرك واحدة من هذه الحركات بمفردها دون تنسيق مع بقيتها، أم أن مثل هذا التحرك سيجعلها غرضاً لسهام النقد بأنها تجر على المجتمع ويلات رد الاحتلال؟
لذا، أعود لما قلته في البداية؛ إصلاح البيت الفلسطيني هو أوجب الواجبات الآن على حركات المقاومة؛ لإيجاد أرضية مشتركة للتنسيق فيما بينها من أجل مجابهة هذه الغطرسة الصهيونية.
على ذكر كلمة «توجهاتها»، هل هذه أزمة حركات المقاومة ذاتها، أم أجندات يتم فرضها عليها من قوى خارجية لأهداف ربما منها إضعافها وسحبها خارج الإطار الذي تعمل فيه؟
– أي تنظيمات وحركات مقاومة تحتاج إلى عدة أمور، منها: دعم مادي، تسليح، دعم لوجستي، دعم سياسي.. وهذا يقتضي أن تكون هناك قوى داعمة؛ وبالتالي هناك أجندات تطلبها تلك الدول الداعمة، وهذا ما يمكن أن يجعل بعض حركات المقاومة مكتوفة الأيدي في بعض الملفات، البراعة هنا تكمن في التعامل السياسي مع تلك المتناقضات، وربما يلحظ الكثيرون نجاح بعض حركات المقاومة في ذلك دون تسمية، لكن بالضرورة هناك إخفاق لديها في بعض الجوانب التي تفرضها عليها تلك التوجهات.
بخصوص قدرة هذه الحركات على التوافق وترميم البيت الفلسطيني، هل ترى أن غياب الرمزية الجامعة (نموذج عرفات مثلاً) هو أحد تلك الأسباب؟
– بالطبع نعم؛ محمود عباس لن يكون ياسر عرفات، فعباس لا يملك التاريخ ولا الكاريزما العرفاتية، عرفات كان رمزاً مقاوماً، ولذلك كان قادراً في وقت ما أن يجمع البيت الفلسطيني، وغيابه أوجد فراغاً لم ولن يستطع عباس أن يملأه؛ لذلك، أوصي أولاً بإعادة ترتيب البيت العربي، ثم إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، إن كنا جادين حقيقة في الوقوف أمام مثل تلك القرارات من الاحتلال التي لن تكون الأخيرة.