إذا كان لا يمكننا الفصل في تحدي التغريب بين قضايا الأسرة وقضايا المجتمع ككل؛ فهناك علاقة جدلية بين ما تتعرض له الأسرة وما يتعرض له المجتمع، حتى إننا نستطيع قراءة المشهد كاملاً إذا تم تسليط الضوء على المخططات التي تعرضت لها الأسرة؛ حتى يتم تفكيك بنيتها القديمة وتشكيل بنية جديدة متوافقة مع المعايير والقيم الغربية المستحدثة، وهي مخططات عميقة الجذور متعددة المستويات والمراحل؛ لأنها تحاول تفكيك واحدة من أشد البنى المجتمعية رسوخاً في بلادنا، ولأن الانتصار في هذه المعركة يعني ببساطة أن ما بعدها بالغ السهولة.
في معركتنا مع التغريب لا بد أن نعترف أن ثمة نقاط ضعف بعضها بالغ الفداحة موجودة في محيطنا الداخلي، وفي بنيتنا الأسرية العميقة؛ فكثير من القيم الأسرية الحاكمة هي نتيجة لمجموعة عادات وتقاليد ظالمة بعضها يعود للعصر الجاهلي بشكل صريح، وبعضها الآخر مزج بين قيم العصر الجاهلي وبعض الأفكار المغلوطة التي شاعت في عصور الانحطاط عن الدين، بدأت معركة التغريب في بلادنا باستثمار مدروس لنقاط الضعف هذه، وجعلها نقطة ارتكاز محورية للتفكيك لينطلق بعضها لآفاق أكثر اتساعاً وأشد تطرفاً.
ويمكننا في هذا الصدد التمييز بين موجتين كبيرتين للتغريب تعرضت لهما الأسرة المسلمة.
صدمة المواجهة
يعد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو التوقيت الصحيح الذي انطلقت منه الموجة الأولى من التغريب؛ حيث شكل المناخ الثقافي السائد بيئة خصبة ترعرعت فيها كل صور التقاليد الظالمة التي حكمت الأسرة كما حكمت المجتمع كله حالة من التأخر الحضاري الشامل في ظل الاستعمار، ضربت كل نواحي الحياة، وكان المصلحون في هذه المرحلة يسعون للتعامل مع قضايا المرأة والأسرة بطريقة التوالي؛ أي أنه بعد التحرر من الاستعمار نبدأ في التعامل مع المظالم الداخلية الموجودة في المجتمع، وعلى رأسها ما تعيشه المرأة والأسرة مما لا علاقة له بالدين (وإن ألبسهم البعض ثوبه مستنداً إلى آثار غاية في الضعف)، بينما تعامل الاستعمار وأعوانه بطريقة التوازي، فضرب جميع مناحي الحياة بالقوة الخشنة والقوة الناعمة، ومن ذلك ما تعرضت له الأسرة المسلمة من صدمات البداية.
ويمكننا النظر لكتاب «المرأة الجديدة» لقاسم أمين كنموذج واضح لا لبس فيه للموجة الأولى للتغريب، التي وإن بدأت في ظل رفض عارم لها، إلا أنها استطاعت في غضون عقود قليلة أن تحقق إنجازات حقيقية وملموسة في الواقع الفعلي الذي تجاوب مع المضامين الجديدة التي ويا للعجب تم تسويقها باعتبارها السبيل الحقيقي للتخلص من الاستعمار! وهو ما عبر عنه د. طه حسين بشكل صريح: «إن سبيل النهضة واضح بيِّن مستقيم ليس فيه عوج ولا التواء، وهو أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاءً في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحَبُّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب»(1).
تغريب بالإكراه
الموجة الثانية الكبيرة من التغريب هي ما نعيشه هذه الأيام؛ فمنذ سبعينيات القرن الماضي ظهر تيار إصلاحي جديد بدأ بالعمل على الإصلاح بمنطق التوازي، وقدم إسهامات تجديدية في شتى قضايا الأسرة والمرأة، وحقق إنجازات ملموسة مع الظهير الشعبي، وشاركت النساء في صوغ هذا المشروع، وظهرت نوعيات غير نمطية منهن شاركن في صناعة هذا المشروع، حتى إن الكثيرات منهن نشأن في أسر عاشت التجربة التغريبية سواء على مستوى الفكر أو السلوك، ورفضنها وقررن بشكل واع أن يصبحن جزءاً من تيار الإصلاح النهضوي الجديد القائم على الأسس الإسلامية.
وما يميز هؤلاء النساء أيضاً أنهن تلقين تعليماً عالي الجودة، واستطعن التمييز بوضوح بين التحديث؛ حيث الاستفادة من العلوم الغربية بشتى مجالاتها المعرفية حتى على مستوى الإنسانيات مع نمو عقلية نقدية واعدة وبين التغريب من حيث هو تذويب للهوية واستلاب عاطفي ونفسي وشعوري.
بدأت الموجة الثانية من التغريب، إذن، بشكل عكسي؛ حيث تيار تغريبي مسيطر على الجامعات ومناحي الحياة الثقافية، لكن في المقابل نشأ تيار إصلاحي بدأ يشق طريقه مستفيداً من تجارب الماضي، سواء منها ما يتعلق بالتوازي في النظر للقضايا، أو بشنه هجوماً عنيفاً على الأفكار التقليدية العفنة البائدة التي حاربها بنفس القوة التي واجه بها تيار التغريب.
وأصبح هذا التيار الإصلاحي الجديد رقماً صعباً في أي معادلة، حتى اضطر التيار التغريبي للاحتماء بحزمة التشريعات الدولية لتخريب الأسرة بدءاً من اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ثم ما حدث في مؤتمر القاهرة للسكان ومقررات بكين وما تلاها، التي لم تعد مجرد مؤتمرات تقدم التوصيات، ولكن أصبح لها صفة إلزامية ومتابعة دورية لمتابعة تنفيذ المقررات وتضمينها في القوانين الوطنية، بحيث يتم تدويل القيم الأسرية في حد ذاته لصالح الرؤية الغربية للحياة الاجتماعية؛ فبينما يولي ما يطلق عليها خدمات الصحة الإنجابية أولوية الرعاية لحمل المراهقات، يتم تجريم الزواج المبكر للفتاة باعتباره انتهاكاً لطفولتها، وبينما يتم وصم المهر بثمن بيع الفتاة، يتم الحديث عن العمل المأجور كطريق وحيد لتمكين المرأة الاقتصادي؛ بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله لفرض الرؤية الجندرية على مجتمعاتنا.
والجندر في أبسط تعريف له يعني أن الجنس البيولوجي (ذكر وأنثى) لا يرتبط بالجنس الثقافي (رجل وامرأة)، أو كما قالت «سيمون دي بوفوار»: «لا تُولد المرأة امرأة.. وإنّما تُصبح كذلك»! ومن ثم انطلق التيار التغريبي بجموح لفرض مثل هذه الأفكار الشاذة وتأصيلها ووضعها في صلب مشروعه، وأصبح مصطلح «العابرون جنسياً» مصطلحاً شائعاً يتم الترويج له، وتم استخدام وسائل الإعلام بمهارة في نسج وعرض قصص هؤلاء والاضطهاد الذي يعانون منه في المجتمع، والبعض منهم فنانون وأبناء فنانين؛ وهو ما أثار لغطاً في الشارع، خاصة وقد عملت وسائل الإعلام هذه بإلحاح على أخبار هؤلاء النجوم الفنانين! والحديث عن أدق تفاصيلهم الحياتية، واستخدمت منصات التواصل الاجتماعي في هذه الحرب على ثوابت القيم الأسرية، وما معركة «البكيني» التي أثيرت مؤخراً واعتباره حرية شخصية من غير المقبول انتقادها إلا واحدة من معارك هذا التيار الذي يفرض مفهومه عن الحرية بمثل هذه الأدوات، وما رفع سقف الطموحات العلمانية بهذه الصورة المستنكرة إلا آلية للقبول بالدرجات الأقل؛ فإذا كان «البكيني» مستنكراً على شواطئ الفقراء فكشف الشعر مثلاً أمر طبيعي!
على أن ما يميز هذه الموجة الثانية هو تلك الضربات الموجعة التي تلقاها التيار الإصلاحي وإغلاق صحفه ودور نشره ومواقعه الإلكترونية في كثير من البلدان، فأُخرج عمداً من ساحة المواجهة، وبقي التيار التغريبي وحيداً في الساحة يعرض مشروعه من جهة، وينفر من أطروحة التيار الإسلامي الإصلاحي من جهة أخرى، دون أن يملك الأخير حتى حق الرد.
أسلمة التغريب
يمكننا القول، إذن: إنه بعد المد التغريبي الأول الذي وصل ذروته في ستينيات القرن الماضي (مع بعض التباينات الأيدولوجية التي تلتقي في الأصل العلماني الكبير)، بدأ التيار التغريبي يفقد الكثير من شرائحه المثقفة لصالح التيار الإصلاحي الأصيل الذي تعلم الكثير من تجاربه السابقة، والذي تجاوز كثيراً من القيم والتقاليد والعادات التي لا ترتبط بأصل إسلامي صحيح، وأصبحت قضايا الأسرة تعالَج بشكل كلي ومتكامل في إطار فهم الواقع الاجتماعي، وتحت منظومة القيم الإسلامية الفلسفية الحاكمة؛ وهو ما أزعج صناع القرار في العالم الذين سعوا للالتفاف على هذا المد.
وما تقرير مؤسسة «راند» الأمريكية الذي حمل اسم «بناء شبكات إسلامية معتدلة» إلا نموذج لهذه المحاولة الالتفافية الناعمة لضرب هذا المشروع من الداخل، وبنفس أدواته، عن طريق دعم ما يطلقون عليهم المعتدلين، وما هم إلا أصحاب المشروع التغريبي الذين يسقطون رؤيتهم على النصوص الإسلامية، ويقومون بتأويلها بطريقة تجافي منطق اللغة، متجاهلين آراء المفسرين والمحدثين جميعاً؛ «يرى المعتدلون أن المواقف ذات صبغة الاضطهاد في القرآن والسُّنة بالنسبة للمرأة في المجتمع والأسرة (على سبيل المثال أن البنت ترث نصف ما للولد) يجب أن يعاد تفسيرها في ضوء الواقع الحالي وليس الواقع الذي ساد أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم»(2).
حتى إن التقرير أشار بشكل صريح إلى أهمية استغلال وسائل الإعلام والفنون المختلفة للترويج لهذا الفكر، وبالطبع إذا قامت بهذا الدور امرأة ومن أصول إسلامية، فإن الأمر يكون أشد وقعاً؛ «في النرويج، على سبيل المثال، فإن ممثلة الكوميديا المسرحية «تسابانا رحمان» وهي من أصول باكستانية تحب أن تظهر على المسرح مرتدية البرقع، ثم تقوم بخلعه ليظهر تحته فستان سهرة أحمر، قبل أن تقوم بإلقاء نكاتها المعارِضة للشريعة، وتؤكد فوائد التكامل مع الحداثة الغربية»(3).
_________________________________________________
(1) مستقبل الثقافة في مصر.. طه حسين.
(2) تقرير «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، مؤسسة راند، مارس 2007م.
(3) المرجع السابق