كان لافتاً أن قرارات التطبيع الجديدة من البحرين بعد الإمارات وما يثار من جانب إدارة ترمب عن اقتراب التطبيع مع دول أخرى، هو نتائج ضوء أخضر من الجامعة العربية بعدما رفضت وأفشلت قراراً فلسطينياً لإدانة اتفاق التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني، وبذلك أعطت الضوء الأخضر لمن يرغب في التطبيع مع الصهاينة.
بل إن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حين أعلن رسمياً عن إقامة علاقات دبلوماسية مع مملكة البحرين، قال: “توصلنا إلى اتفاقية السلام الرابعة مع دولة عربية والحبل على الجرار”.
كما كان لافتاً الدور المصري في هذا التطبيع، عبر استقبال مفاوضات سرية بين أطراف عربية و”إسرائيلية”، ومسارعة السلطات المصرية للترحيب باتفاقي التطبيع بين الاحتلال وكل من الإمارات ثم البحرين.
فقد أعطى إسقاط مشروع إدانة التطبيع “الإسرائيلي” الإماراتي بالجامعة العربية ضوءاً أخضر لدول أخرى للهرولة نحو الاحتلال، وشكّل إسقاط مشروع قرار فلسطيني بإدانة التطبيع الإماراتي هزيمة للعرب في بيتهم، ونصراً لتحالف التطبيع؛ ما يطرح هذا التساؤل: هل يؤدي هذا الموقف إلى انهيار جامعة الدول العربية؟
فقد ظلت القضية الفلسطينية خطاً أحمر عربياً منذ نشأة الجامعة العربية، في 22 مارس 1945م، ولو شكلياً، ونظمت الجامعة مؤتمرات عربية خصيصاً لرفض التطبيع؛ أشهرها مؤتمر “لاءات” الخرطوم عام 1967م الشهيرة: “لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو”.
ولكنها الآن انقلبت على جميع قراراتها، وآخرها إسقاط مشروع قرار فلسطيني بإدانة التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني في الجامعة العربية منذ أيام؛ ما يعني انتهاء دورها وانهيار “بيت العرب” ومنظومة العمل العربي المشترك، الممثلة في الجامعة العربية.
الأكثر خطورة هو الانقسام العربي بين مؤيدي ومعارضي التطبيع، فبعدما كانت القرارات العربية تشهد إجماعاً على رفض التطبيع، أصبحت -باتفاق التطبيع الإماراتي والبحريني– تشهد إجماعاً على تأييد التطبيع والترحيب به، رغم رفضٍ وتنديد كبير من القيادة الفلسطينية المتمسكة بمبادرة السلام العربية، لعام 2002م، التي تربط بين التطبيع والانسحاب “الإسرائيلي” من الأراضي المحتلة عام 1967م.
فحتى عندما تم التوافق، بالحد الأدنى، على صدور قرار من الجامعة العربية يتضمن تأكيد التمسك بالمبادرة العربية للسلام، وإدانة الخروج عنها (أي إدانة التطبيع)، واجهت مجموعة من الدول العربية ذلك ورفضت هذه الإضافة.
وعندما اقترح وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، الذي كان يتولى الرئاسة الدورية لمجلس وزراء الخارجية العرب، تعليق الجلسة ساعات أو أياماً أو إسقاط بند إدانة التطبيع كلياً، أجمعت الدول على عدم تعليق الاجتماع، ومن ثم سقط مشروع الإدانة تلقائياً.
التطبيع بلا مقابل
قبل التطبيع كانت المعادلة العربية التي قامت عليها مبادرة السلام العربية هي “الأرض مقابل السلام”، ولكن “تل أبيب”، والتطبيع العربي المجاني، قلب المعادلة إلى “السلام مقابل السلام”؛ أي بات التطبيع بلا مقابل؛ ما سيشجع الكيان الصهيوني على الاحتفاظ بالأرض المحتلة وضمها في نهاية المطاف دون اعتراض عربي، وهو ما أكده نتنياهو.
فقد حرص نتنياهو عقب اتفاق السلام مع الإمارات ثم مع البحرين على تأكيد أن هذا هو عصر جديد من السلام، عبارة عن السلام مقابل السلام.
خطورة هذا التطبيع بلا مقابل لها وجه آخر تستغله دولة الاحتلال وإعلامها بالتركيز على مقولة: إن “الدول العربية تخلت عن القضية الفلسطينية”، وباتت تهرول تجاه الكيان بحثاً عن مصالحها، خصوصاً مع أمريكا التي تعتبر الكيان الصهيوني هو ربيبتها.
الدور المصري
كان واضحاً من خلال الزيارات المكوكية الأمريكية و”الإسرائيلية” والخليجية للقاهرة، أن هناك دوراً تؤديه السلطات المصرية في تشكيل هذا التحالف العربي الجديد الداعم للتطبيع، ربما لأسباب تتعلق بضغوط إدارة ترمب على الأطراف العربية كما ترى فضائية “الحرة” الأمريكية، وربما لأسباب تتعلق بمصالح هذه الدول العربية مع أمريكا، وسعي الأخيرة لربطها بالكيان الصهيوني.
وتقول صحف أمريكية: إن الدور الذي تؤديه سلطات مصر في التطبيع له علاقة بدبلوماسية المصالح مع ترمب، والرغبة في الوقت نفسه لتبادل المصالح؛ أي تشجيع وقيادة التطبيع، مقابل التغاضي الأمريكي عن القمع وانتهاك حقوق الإنسان وعدم اتخاذ أي عقوبات ضد مصر رغم طلب الكونجرس.
وكانت سلطات مصر أول المرحبين بنبأ التطبيع الإماراتي ثم البحريني، وأعلنت عقب خبر التطبيع مباشرةً تأييداً له ووصفته بخطوة البحرين و”إسرائيل” المهمة لإقامة علاقات دبلوماسية بينهما.
تشييع الجامعة العربية
التطبيع يعتبر تشييعاً رسمياً للجامعة العربية بعدما خالفت قراراتها السابقة بعدم التطبيع وباتت جامعة للتطبيع.
لذلك جاء تشييع شبان فلسطينيين لتابوت يحمل شعار جامعة الدول العربية معبراً عن واقع ما جرى، بأن دور الجامعة العربية انتهى، ولا بد من تشييعها ودفنها، واحتجاجاً على إحباط مشروع قرار فلسطيني يدين اتفاق التطبيع الإسرائيلي الإماراتي.
فقبل 43 عاماً، وتحديداً عام 1977م، طردت الجامعة العربية مصر من عضويتها بسبب اتفاق السلام المصري الإسرائيلي، وتم نقل مقر الجامعة لتونس، والآن في عام 2020م لا تدافع الجامعة فقط عن التطبيع، ولكنها ترفض وتدين قراراً فلسطينياً يطالبها بالتصدي للتطبيع ورفضه وإدانته.
وأدى عشرات الشبان في بلدة كفر قدوم شرقي قلقيلية (شمال) صلاة الجنازة على تابوت يحمل شعار الجامعة العربية، وحملوه على الأكتاف في إشارة إلى موت الجامعة، خلال مسيرة أسبوعية منددة بالاستيطان الإسرائيلي، تنظم في البلدة.
وهو مؤشر خطير على أن جامعة الدول العربية تتجه رسمياً نحو الأفول، والانهيار بشكل تدريجي، عبر الذهاب نحو التطبيع بشكل تدريجي.
يبقى أن التكالب على التطبيع لا يعكس رأي الشعوب الرافضة، ولكنه يعكس بشكل أكبر رؤية ومواقف الأنظمة التي ترغب في علاقات أفضل مع أمريكا، وترى أن الطريق إلى المعدة الأمريكية يمر بالبلعوم الإسرائيلي.