إبراهيم محمود(*)
تواجه أمتنا في هذه الأوقات حرباً ضروساً من جميع الجهات، فلا تكاد تجد جانباً من الجوانب إلا ودخل الأعداء من خلاله لإفساد أمتنا، وإبعادها عن دينها، وهو ما يسهل السيطرة عليها بشكل كامل.
ولعل من أبرز نتائج هذا الاستهداف حملات التشكيك أو التلاعب بالثوابت والمسلمات التي ميّزت أمتنا عن غيرها، وما تفريق المسلمين، وموالاة اليهود، والتشكيك بقضية فلسطين، والدعوة إلى الشذوذ والإلحاد والتحرر من رباط الأسرة والمجتمع وغيرها الكثير إلا من مظاهرها، بل وجدنا من ينكر على الأمة رد فعلها على الإساءة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، ويبرر للمسيئين إساءتهم وتصريحاتهم المعادية بشكل صريح لديننا ومقدساتنا.
هذه كلها يربطها خيط واحد، يتمثل بإفساد كل ما ينظّم حياة الناس الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية وغيرها، فلا تستطيع أن تدرك الأمة من أين يأتيها الهجوم، وتنشغل بردة الفعل عن صناعة الحدث وتغيير الواقع!
ولنلاحظ أن دور الكثير من المخلصين بات محصوراً في الشجب والإدانة، وعلى الرغم من أنه واجب على كل من يستطيع القيام به في ظل سقوط الكثير من الأقنعة- التي باتت تبرر التخاذل والخيانة- إلا أن حصر دور علماء الأمة في هذا الجانب، يفقدهم التأثير، ويجعل الأمة تعتاد على إنكارهم وشجبهم، بل وربما يميت في الكثير منهم روح التغيير، والاكتفاء بالكلام أو مشاركة العبارات على وسائل التواصل المختلفة.
بناء على ما سبق، نطرح السؤال الأبرز: متى تنتقل الأمة من ردة الفعل إلى صناعة الفعل بحد ذاته؟
إننا كحركة إسلامية، ملزمون شرعاً بأن نكون في طليعة من يقود الأمة، والحركة الإسلامية نظراً لما تمتلكه من خبرات وكوادر مؤهلة وعلماء تستطيع أن تقوم بهذا الأمر، فالأمة تحتاج إلى من ينير الطريق ويرفع الراية ويقنعها لتسير خلفه.
والأمر ليس مجرد كلام يقال، بقدر ما هو حقيقة يمكن التعامل معها والاستفادة منها لصالحنا.
ولو ألقينا نظرة عامة على مشاهير التواصل الاجتماعي، نجد أن معظمهم لا يقدمون للأمة أي فائدة، بل كثير منهم لا يستحقون أن تضيع من عمرك دقائق للاستماع لهم، لكنهم دخلوا في مجال بأبسط الإمكانيات، ومع العمل المستمر، بات لهم تأثير في فئة كثيرة من الناس، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: “سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” (حديث صحيح رواه أحمد وابن ماجه).
والسؤال الذي ينبغي على الحركة الإسلامية أن تطرحه على نفسها: أين نحن من خارطة التأثير على الناس، سواء على الواقع أو عبر منصات التواصل الاجتماعي؟
وبرأيي هذا الأمر لا يمكن الإجابة عنه ببضع فقرات، فهو يحتاج إلى نقاش مستفيض، بعيداً عن المثاليات، ويضع خطوات عملية لصناعة الحدث والرأي العام، تكون نتيجة لتلاقح أفكار المختصين في المجالات المختلفة، حتى نجمع بين عناصر ثلاثة (المحتوى، الأسلوب، الجودة).
القيادة والتأثير
من التصورات السائدة، في كل الميادين -بما فيها الحركة الإسلامية- أن الشخص لا يكون مؤثراً ما دام بعيداً عن المناصب القيادية، فهو بحاجة إلى أن يكون في أعلى الهرم (العمل، الدعوة.. إلخ) حتى يستطيع إحداث التغيير، وتطبيق برنامجه وأفكاره.
وقد أتفق مع هذا حينما نتكلم عن حزب يملك برنامجا سياسياً، يسعى للوصول إلى السلطة لإحداث تغيير في رؤية الدولة، وإصلاحها سياسياً واقتصادياً، وهو ما قامت به الحركة الإسلامية في كثير من الدول وفق إيمانها بالإصلاح السياسي، لكن الحديث يختلف حينما نتحدث عن مجموعة من الأفراد داخل عمل دعوي؛ فمع تسليمي بحق كل من يسعى للارتقاء بالعمل وتطويره بترشيح نفسه لتحمّل المسؤوليات الدعوية القيادية المختلفة، إلا أن لهذه الأمور متطلبات ومسؤوليات قد تكون عبئاً على من يرشّح نفسه في بعض الأحيان، فالمنصب تكليف وليس تشريف.
وعودة إلى نظرية التأثير وصناعة الحدث، فإن المناصب القيادية قد تُغيّب بعض المختصين في المجالات المختلفة نظراً للانشغال بالعمل القيادي والمسؤوليات المترتبة، وهو ما يغيّبهم عن الساحة، ويعطي المجال لآخرين ليحلوا مكانهم.
وهذا بدوره واحد من الأمور التي تحتاج إلى نقاش؛ فمع إيماننا بأن كل أبناء الدعوة المختصين في المجالات العلمية المختلفة -خصوصاً أصحاب المؤهلات العالية والعلماء- هم جواهر وكنوز لا يمكن الاستغناء عنهم، لكن هل يجب وضع الجميع في المناصب القيادية ليصبحوا مؤثرين؟ وهل كل من يبرع في مجال علمي معين مناسب لتولي مسؤولية قيادية في هذه المنطقة أو تلك الجهة؟
برأيي.. لكل شيء متطلباته، ويحتاج المرء إلى موازنة الأمر قبل الإقدام على تزكية نفسه لتولي منصب ما، ولربما شخص مختص في مجال ما، يبرع في تخصصه والتواصل مع الناس أشد تأثيراً من الكثير من المسؤولين؛ فالأمر لا يتعلق بالمسؤولية بقدر الإتقان واستغلال الفرص المتاحة.
ولنا في السيرة النبوية عبرة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف كيف يستغل طاقات صحابته رضوان الله عليهم، فتجد كل واحد منهم في المجال الذي يبرع فيه.. وتأمل معي الأحاديث التالية:
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإنَّ لكلِّ أمَّةٍ أميناً، ألا وإنَّ أمينَ هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح” (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم).
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استقرئوا القرآن من أربعة؛ من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبَي بن كعب، ومعاذ بن جبل” (رواه البخاري).
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وحذيفة، وسَلْمان، وعمار، وبلال” (رواه أحمد).
– عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: “أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهودَ؛ قال صلى الله عليه وسلم: إني والله ما آمَنُ يهودَ على كتاب، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمتُه له”، قال: “فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهودَ كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأتُ له كتابهم” (رواه البخاري).
فهذه بعض من الأحاديث التي نجد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته رضوان الله عليهم، والسيرة تزخر بنماذج أخرى، كحذيفة بن اليمان في ائتمانه على أسماء المنافقين، وخالد بن الوليد في الجهاد، وثابت بن قيس في التحدث باسم الرسول صلى الله عليه وسلم (ناطق رسمي) حيث قال صلى الله عليه وسلم: (وهذا ثابت بن قيس، وسيجيبك عني) (رواه البخاري).
إن كثيراً من الصحابة لم يتولوا مناصب قيادية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، إلا أن تأثيرهم العلمي وسيرتهم الحياتية العطرة ما زالت مستمرة إلى حد اللحظة.
إنني لا أدعو إلى الزهد بالمسؤوليات القيادية، فإننا نحتاج إلى قادة أكفاء يتحملون أعباء الدعوة ويستعينون بالله لتجاوز كل ما تواجهه الحركة الإسلامية من تحديات وحرب ضروس، إنما أدعو إلى أن ينظر كل منا في المجال الذي يستطيع أن يؤثر فيه ويصنع الحدث بحيث يسد ثغرة ويقف حصناً منيعاً أمام محاولات الأعداء للنيل من أمتنا وحرف بوصلتها.
اللهم وفقنا لما فيه طاعتك.. وانصرنا على أعدائنا إنك سميع مجيب.
_________________________
(*) المصدر: موقع “بصائر تربوية”.